مدرسة كامانار الإعدادية (السنغال)

هذا المشروع من العدد (108)، اضغط هنا لرؤية العدد.

تشبه العمارة البيئية أثر الفراشة في أفعالها البسيطة وتأثيراتها العظيمة، ليس على البيئة فقط بل على هوية المكان والإنسان أيضاً. من الأمثلة الحية على هذا هو مشروع المدرسة الإعدادية كامانار بالسنغال المرشحة للفوز بجائزة أغا خان  لعام 2022 من تصميم مكتب داو اوفيس التابع للمهندس الإسباني ديفيد غارسيا، والذي سيتطرق إليه هذا المقال.

يقول المعماري حسن فتحي :”العمارة إذا كانت للإنسان يمكننا التحدث والنقاش أما إذا كانت لأشياء أخرى مثل التجارة أو السياسة فهي ليست عمارة ” 

تعد السنغال من الدول الإفريقية التي تستفيد من المشاريع الخيرية لتطوير نمط حياة المجتمعات المحلية، وفي إطار هذه الجهود يأتي مشروع بناء إعدادية كامانار في السنغال كمثال على العمل الجاد المستمر لتحسين التعليم وتوفير فرص تعليمية متساوية للجميع، بالإضافة إلى تأمين فرص عمل للسكان وتحسين البنية التحتية للمنطقة.

من برشلونة إلى السنغال، بداية الفكرة:

بدأ المشروع كفكرة تطوعية من قبل استوديو داو أوفيس الإسباني، وذلك بعدما لاحظوا الاكتظاظ  في الثانوية التابعة لنفس المنطقة “ثيونك إيسيل” في السنغال. تكمن نقاط قوة هذا الموقع في المناخ الجيد ووفرة مادة الطين الذي كان له دور جمالي و هيكلي في آن واحد، مما يجعل من هذا المشروع مثال حي على العمارة المناخية (bioclimatic architecture) التي تراعي المناخ والطبيعة المحيطة بالمشروع .

حمل مشروع الإعدادية قيم متنوعة لكن أهمها هو مشاركة العلم والتعلم، فهي لم تكن مدرسة للطلبة وحسب بل كانت الورشة التي احتضنت ما يقارب 146 عامل بناء، بالإضافة إلى مختلف فنيي البناء وأتاحت لهم الفرصة للمشاركة والتعلم وتبادل الخبرات، مما شكل منفعة مباشرة للاقتصاد الجزئي في المنطقة. ومن الجدير بالذكر أن السنغال كانت مهداً لعدة مشاريع مرشحة لنيل جائزة آغا خان، ففي الدورة الرابعة عشر (2017-2019) ترشحت وحدة التدريس والبحث بجامعة عليون ديوب في بامبي السنغال، وقبلها في الدورة السادسة (1993-1995) ترشح لنفس الجائزة المركز الثقافي للتحالف الفرنسي-السنغالي بمدينة كاولاك السنغالية.

قام بتصميم إعدادية كامانار، الإسباني ديفيد غارسيا David A. Garcia  مؤسس كل من مكتب ماب أركيتكتس (MAP Architects) ومكتب داو اوفيس (DAW office)، والذي عمل في شركة فوستر وشركائه بلندن، ثم تم تعيينه رئيسًا لمعهد الهندسة المعمارية والتكنولوجيا في الأكاديمية الملكية الدنماركية للفنون، كوبنهاغن، بين عامي 2014 و 2018. حصل جارسيا على جائزة الاتحاد الدولي للابتكار في التعليم من الاتحاد الدولي للمهندسين المعماريين وشارك في العديد من المشاريع الخيرية مع بعض المهندسين المتطوعين حيث سعوا إلى البناء في البيئات الصعبة والمجتمعات المحلية، بهدف تحويل المخاطر إلى فرص وذلك من خلال منظمات عالمية كاليونسكو.

صورة جوية للمشروع

وحدة " الأولاس AWLAS " ، جزء من الكل

تقع المدرسة بالقرب من نهر، وقد تم تصميمها بالاعتماد على مخطط الموقع الذي يمثل “الكل” من خلال تتبع العناصر الطبيعية للموقع “أشجار الباوباب والمانجو” المتواجدة هناك، ولم يقتصر التصميم على هذه الخاصية: فقد تم دمج الأشجار في المشروع وتطوير المناظر الطبيعية المحيطة به فعلياً بطريقة تخلق مساراً متدرجاً للوصول مما يحافظ على سلامتها ويعزز شكلها و أهميتها. 

تتميز المدرسة الجديدة بتصميمها على شكل حرم جامعي مكون من وحدات فردية أو مزدوجة أو ثلاثية – تسمى “الأولاس awlas ” – تم تطوير تصميمها وفقًا للطبيعة المتواجدة حول المكان وذلك لإنشاء شبكة منظمة تتسع أيضًا لساحات الألعاب وأماكن التجمع لمختلف الفئات العمرية.  بالإضافة إلى مساحات مخصصة للاجتماعات الإدارية وأخرى للراحة وأنشطة ما بعد الدراسة للطلبة. ترتبط الوحدات ببعضها البعض من خلال فراغات خارجية كبيرة مشجرة تسمح بالتمديدات والتكيفات الممكنة أي أن تصميم الوحدة يتفاعل مع البيئة المحيطة به وهذا ما كان له تأثير إيجابي على أداء الطلاب .

في المجمل تم بناء 21 فصلاً دراسيًا منفردًا كل فصل يمثل وحدة تستقبل 18 طالب مصممة بنظام تهوية عن طريق حواجز خشبية تفيد الحماية والخصوصية في آن واحد، وغرفة مزدوجة للمكتبة وأخرى للأنشطة اللامنهجية منها منشآت رياضية لممارسة كرة القدم وكرة السلة وألعاب القوى، بالإضافة إلى دورات المياه وغرف تغيير الملابس ومبنى آخر مخصص للاستخدام الإداري وحديقة نباتية للطلاب، محاطة جميعها بسياج محيطي يبلغ حدود حوالي 2 هكتار من أراضي الكلية مشكلاً مساحة 1900 م².

الموقع العام للمشروع
وحدتي الأولاس المشكلة للمكتبة

عمارة من طين

تم إستغلال مادة الطين المتوفرة بكثرة في المنطقة لتشكيل الطوب وبناء هيكل الإعدادية، حيث يتمتع  الطين بمقاومة عالية وخاصية تحمل الضغط لهذا الشكل من الأقواس. بدأ إنشاء هيكل الإعدادية عام 2016 حيث بُنِيَ أول قسم نموذجي منها الذي كان عبارة عن تجربة لقياس تحمل ضغط الأقواس، ثم أنجزت الأقسام الواحدة والعشرين المتبقية.

من الملاحظ أن الغلاف الخارجي للبناء ينطبق على الهيكل فيتخذ شكل أقواس في سلسلة متناوبة من مادتين مختلفتين (طين وخشب) ينتج عنها وحدة وظيفية على شكل قبوة على غرار القبوات النوبية القديمة أو مباني غاودي الكاتالونية (Gaudí Catalan buildings) و للحماية يتم إغلاق المساحات بشكل طبيعي بواسطة تغطية خشبية بسيطة على الجمالونات.

أخذاً بعوامل الرياح، تم توجيه كل وحدة في المخطط الرئيسي بنفس الطريقة: شمال – جنوب، ونظراً إلى مسامية الطين، فإن كلا هذين العاملين قد عززا ظاهرة “التبريد التبخيري” مما جعل من الممكن الاستغناء عن أنظمة تكييف الهواء الميكانيكية. كما استخدم لتغطية القبوات ألواح خاصة تمنح الهيكل هيئة الكوخ الأساسية وتحمي الجدران الطينية من المطر بينما تخلق تجويفًا هوائيًا لتخفيف الإشعاع المباشر.

يبدو المبنى بسيطاً من الداخل، حيث تقف جدران الغرف الطينية مجردة بدون طلاء، مما يجعلها تتفاعل بشكل جمالي مع خشب الطاولات والكراسي المدرسية التي قام بصنعها الحرفيون المحليون، مما يذكرنا بنماذج التصاميم المحلية البسيطة التي تمتاز بخفتها وفعاليتها الوظيفية على الرغم من نقص الوسائل التقنية الحديثة.

الهيكل الداخلي للمبنى
الهيكل الخارجي للمبنى

الإنسان و العودة إلى الطبيعة

يعتبر بناء إعدادية كامانار تجربة ناجحة لإثبات أن تأثير الطبيعة على الإنسان و تفاعل الإنسان مع الطبيعة هما عاملان مهمان في إرساء دعائم العمارة التي تستجيب لاحتياجات الإنسان وراحته ورفع مستوى حياته. 

فقد شكل هذا المشروع مزيجاً مثالياً، تجلى من خلاله التناغم بين المهارات والموارد المحلية والحاجة إلى إنشاء مبنى سلبي من جهة وبين البيئة الطبيعية الأصلية للمشروع واحتياجاته المكانية من جهة أخرى. لذا يمكن اعتباره علامة فارقة في تاريخ الهندسة المعمارية منحتها مظهراً واضحاً متميزاً يعزز قوة المنشأة ذاتها ويعيد الثقة إلى مجتمع أثقلت كاهله التبعية الثقافية وطلب العون.

عمارة ، بيئة ، إنسان

في النهاية، يمكن القول أن بناء إعدادية كامانار يمثل مثالاً رائعاً للطريقة التي يمكن من خلالها تحسين حياة الناس وتطوير المجتمعات باستخدام الطبيعة و الموارد المحلية، و يجب أن نتذكر دائماً أن البيئة تلعب دورا ًحاسماً في حياتنا وأن علاقتنا  بالطبيعة يجب أن تكون قائمة على الاستعمال العقلاني لها. 

إعدادية كامانار هي مصدر إلهام لتصميم المجتمعات والمباني المستدامة في المستقبل ونأمل أن يتم تكرار هذه التجربة الناجحة في العديد من المجالات والمناطق الأخرى حول العالم. 

معرض الصور:

المراجع:

فريق الإعداد:

إعداد: خولة محمد الحاج
نشر إلكتروني: محمد انس رستم اغا

التدقيق العلمي: م.أمنية شيخة
التدقيق اللغوي: م. حنان حداد

مقالات قد تعجبك

cropped-9a1bbbb4-2007-4f21-893f-3bc699f9e1d7
مفهوم الفيلا السكنية
photo-2
مدرسة جادكال الابتدائية (إيران)
SOS_Village_Djibouti_-_Facade_(4)
قرية الأطفال SOS في جيبوتي
1
نيامي 2000 (النيجر)
inner-garden-villa-123dv_10
DV فيلا الحديقة الداخلية / 123
3
تأثير ناطحات السحاب على حياة قاطنيها
Scroll to Top