تصميم المدن كمرآة للثقافة و التنوع الاجتماعي

“We shape our buildings; thereafter they shape us.”
— Winston Churchill

«نحن نصنع مبانينا؛ ثم هي تشكلنا.»

تُعدّ العمارة أكثر من مجرد هياكل مادية أو تصاميم جمالية، فهي تمثل تعبيرًا بصريًا حيًا عن روح المجتمع وتجسيدًا لهويته الثقافية العميقة. إذ يروي كل عنصر معماري حكاية عن القيم والعادات المتأصلة في سياقه، فتنبع المباني من الثقافة التي أنتجتها لتعكس إرثها وتحولاتها عبر الزمن.

وفي ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم، تغدو العمارة أداة أساسية لتمثيل الهوية، وصون الذاكرة، والتفاعل مع مظاهر العولمة، فضلاً عن دورها في المساهمة بتشكيل مستقبل ثقافي مستدام.

يشكّل الفضاء العمراني أكثر من مجرد بنية مادية، فهو انعكاس مباشر للقيم و الرموز و السلوكيات التي تُميز كل مجتمع. تظهر فيه الطبقات الاجتماعية و التقاليد و العادات بشكل مرئي و محسوس، مما يجعل العمارة أداةً لفهم الهويات المتنوعة و التغيرات الثقافية عبر الزمن.

لكن كيف يمكن للفضاء العمراني أن يُجسّد هذه الاختلافات؟
وكيف تترجم العمارة الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للمجتمعات؟

العمارة مرآة للهوية الثقافية:

تؤثر الهوية الثقافية للمدينة تأثيرًا بالغًا على التصميم المعماري من خلال الأنماط والأشكال والرمزية، كما بيّن Scaranoarchitect (2024) الذي أشار إلى أن العمارة تعكس العوامل التاريخية والدينية والاجتماعية للمجتمع الذي أنتجها.

  • الأنماط و الأشكال المعمارية (Architectural styles and forms)

تتأثر المباني بعوامل تاريخية و دينية و اجتماعية حسب المنطقة, على سبيل المثال:

تعكس الكاتدرائيات القوطية في أوروبا، بأقواسها المدببة و أقبيتها المضلعة، الهوية الثقافية المسيحية.

تُبرز المعابد اليابانية التقليدية جماليات المعتقدات الشنتوية والبوذية، مؤكدةً على الانسجام مع الطبيعة.

تتميز العمارة في الشرق الأوسط بأنماط هندسية معقدة، و ساحات، وقباب كما نرى في تصميم المساجد و القصور  كالثقافة الإسلامية.

مبنى Tatemono Mitsutera في طوكيو
كاتدرائية نوتردام في باريس
  • المواد و تقنيات البناء (Materials and construction techniques)

يُحدد السياق الثقافي اختيار مواد البناء و أساليبه, و يلعب التوافر المحلي و المناخ و التقاليد دورًا في ذلك, من الأمثلة على ذلك:

يستخدم الطوب اللبن في جنوب غرب الولايات المتحدة، و أمريكا اللاتينية، و شمال إفريقيا لكثرة انتشاره.

أيضا تستخدم الدول الاسكندنافية الأخشاب لوفرتها و خصائصها العازلة.

بيينما تتميز اليونان و إيطاليا بالمباني الحجرية نظرًا لإرثها التاريخي و متانتها.

بيت حجري في أنافيسوس، اليونان
  • الرمزية و المعنى (Symbolism and meaning)
    تؤثر الرموز والطقوس الثقافية على التصميم المعماري, غالبًا ما تحمل المباني معانٍ ثقافية تتجاوز الوظيفة. من الأمثلة على ذلك:
  1. ترمز المعابد والكنائس إلى الترابط الروحي، والتفاني، والمجتمع.
  2. تمثل القصور والمباني الحكومية القوة والسلطة والاستمرارية التاريخية.
  3. تعزز المراكز المجتمعية وأماكن التجمع التماسك الاجتماعي والهوية.
  • التنظيم المكاني و الوظيفة (Spatial organization and function)

تُشكل المعايير الثقافية كيفية تنظيم المساحات داخل المباني وتعكس الممارسات الثقافية. حيث تُؤكد المنازل الصينية التقليدية ذات الفناء على خصوصية الأسرة والتسلسل الهرمي، بينما تُعطي العمارة الإسلامية الأولوية لمناطق التجمع الجماعي (مثل الأفنية وقاعات الصلاة)، أيضاً تعكس تصميمات المكاتب الحديثة ثقافة العمل والتعاون والمرونة.

  • التكيف مع السياق (Adapt to the context)

على سبيل المثال، تُظهر بعض المشاريع المعمارية المعاصرة اندماجًا طبيعيًا في التضاريس المحلية، مما يعكس احترامًا للبيئة و السياق الجغرافي.

  • الممارسات المستدامة (sustainable practices)
  1.  تتماشى مع القيم الثقافية للرعاية و احترام الطبيعة.
  2. تتكيف الأسقف المصنوعة من القش في إنجلترا مع جميع الظروف الجوية.
  3. تعالج المنازل القائمة على ركائز في جنوب شرق آسيا المناطق المعرضة للفيضانات.
  4. يراعي التخطيط الحضري احتياجات المجتمع و الحفاظ على التراث التاريخي.

بذلك، تتجلى العلاقة بين الاستدامة البيئية و الهوية الثقافية، حيث تعكس المباني قيم المجتمع و تقاليده في العيش بتناغم مع الطبيعة.

كيف تسهم الهندسة المعمارية في إنتاج التفاوتات الاجتماعية و ترسيخها

تُستخدم البيئة المبنية أحيانًا كوسيلة لإقصاء فئات اجتماعية معينة عبر ما يُعرف بالإقصاء المعماري (architectural exclusion)، حيث تؤدي قرارات التصميم العمراني إلى تقييد الحركة والوصول. (Green European Journal, 2017)

     في عام 1941 ، شُيّد جدار خرساني بارتفاع ستة أقدام وسمك قدم واحد على طول نصف ميل في ديترويت، يُعرف باسم “جدار الثمانية أميال” أو “جدار بيروود” (Birwood Wall). بُني هذا الجدار لفصل حي سكني بهدف الفصل بين الأحياء البيضاء و السوداء. لتمكين حصولهم  على تمويل من إدارة الإسكان الفيدرالية (FHA)، التي كانت ترفض دعم مشاريع قريبة من أحياء السود. هذا الحاجز لم يكن مجرد عنصر عمراني، كان هذا الجدار مثالًا صارخًا على كيفية استخدام البنية التحتية لتعزيز الفصل العنصري و التمييز الطبقي.

     رغم أن الجدار لم يعد يُستخدم للفصل العنصري، إلا أنه لا يزال قائمًا حتى اليوم، و قد تم تحويل أجزاء منه إلى جداريات فنية تُعبّر عن تاريخ المجتمع المحلي و تُذكّر بالأثر المستمر للتمييز العمراني. في عام 2021، أُدرج الجدار في السجل الوطني للأماكن التاريخية في الولايات المتحدة، اعترافًا بأهميته التاريخية والاجتماعية. (Historic Detroit, 2025)

 كيف تُغيِّب التصاميم المتشابهة روح المكان؟

العولمة أسهمت في تصميم مدن متشابهة دون هوية محلية

تُعد العولمة (Globalization) ظاهرة معقدة تحمل في طياتها العديد من التحديات و الفرص في المجال المعماري، لا سيما فيما يتعلق بالهوية الثقافية للمباني. فمع تزايد حركة التبادل الثقافي و الانفتاح الاقتصادي، بات من الشائع رؤية أنماط معمارية متشابهة في مدن مختلفة حول العالم، وهو ما أدى إلى ما يمكن تسميته بـ“توحيد الشكل المعماري”( Unification of architectura form) أو فقدان الخصوصية المكانية.

     لقد أفرز هذا التوجه مباني تُصمَّم اعتماداً على معايير عالمية ترتكز على الجماليات الحديثة والتكنولوجيا المتطورة، لكنها في كثير من الأحيان تتجاهل السياق المحلي سواء من ناحية المناخ أو المواد أو العادات أو النسيج الحضري. وهذا يهدد بتآكل الهوية الثقافية للمكان، حيث تصبح المدن نسخة مكرّرة عن بعضها البعض، مما يفقدها طابعها الفريد ويضعف إحساس المجتمع بالانتماء.

     ومع أن العولمة تتيح فرصاً لتبادل الخبرات والتقنيات الحديثة، فإن مسؤولية المعماري تكمن في تحقيق توازن واعٍ بين الحداثة (Modernity) و الجذور الثقافية(cultural roots). فالمعماري المعاصر مدعوّ لإنتاج لغة تصميمية هجينة، تستفيد من منجزات العولمة دون التفريط بالخصوصية المحلية. بذلك فقط يمكن ضمان استدامة معمارية ليست بيئية وتقنية فحسب، بل أيضاً ثقافية و اجتماعية، قادرة على التعبير عن هوية الشعوب في زمن العولمة المتسارعة. (María Senderos et al., 2025)

مدينة نيويورك
مدينة دبي

العمارة كأداة للتجديد الثقافي (Architecture as a tool for cultural renewal)

في عصر تتسارع فيه تأثيرات العولمة و تتصاعد فيه التحديات المرتبطة بفقدان الخصوصيات الثقافية، يمكننا استخدام العمارة كوسيلة فعالة لإحياء الهوية (Identity)، وتجديد العلاقة بين الإنسان ومحيطه. لم تعد العمارة تُمارس فقط بوصفها عملية إنتاج شكلاني، بل أصبحت أداة لإعادة قراءة السياق المحلي، والاعتراف بالطبقات التاريخية و الرمزية المتجذرة في المكان. من خلال ما يُعرف بالتدخلات السياقية (contextual interventions)، يُمكن للعمارة أن تفعّل الذاكرة الجماعية وأن تُعيد توظيف العناصر القائمة سواء كانت مادية كالمباني المهجورة أو غير مادية كالدلالات الثقافية ضمن مقاربات تصميمية تحترم الموقع و تستجيب لاحتياجات المجتمع.

 

     تتجلى هذه المقاربة في مشاريع تُعيد دمج الفراغات المنسية داخل النسيج الحضري (urban fabric)، ليس بوصفها آثارًاًٍ متحفية جامدة، بل كعناصر حيّة وفاعلة ضمن الحياة اليومية، تُعزز من الاستمرارية الثقافية (cultural continuity) و تُسهم في تكوين هوية معمارية معاصرة تنبع من المكان ذاته. كما تُعزز هذه الممارسات من البعد البيئي للعمل المعماري، إذ تركز على إعادة الاستخدام بدلًا من الهدم مما يُقلل من الأثر البيئي و يُسهم في استدامة الموارد المحلية.(Carrasco, 2025)

في خضم التحولات العالمية المتسارعة، تظل العمارة أداة مركزية في التعبير عن الهوية الثقافية وصياغة الذاكرة الجمعية. لقد أظهر هذا البحث أن تصميم المباني لا يُعبر فقط عن الذوق أو الحاجة الوظيفية، بل يرتبط بجذور أعمق تتعلق بالتاريخ، المجتمع، و القيم.

     و في مواجهة تحديات مثل العولمة أو الإقصاء، تصبح مسؤولية المعماري أكثر من مجرد ابتكار بصري؛ إنها دعوة لإنتاج فراغات تعزز الانتماء، و تحترم السياق، و تعيد وصل الإنسان بمكانه. من خلال وعي معماري نقدي، يمكن تحويل المباني من كتل صامتة إلى رواة حقيقيين لهويتنا المتجددة.

معرض الصور:

المراجع:

فريق الإعداد:

إعداد: جانيت فائز حداد
نشر إلكتروني: محمد انس رستم اغا 

التدقيق العلمي: عبد الله الأشقر

مقالات قد تعجبك

Elias Khuri (2)
العمارة المتوسطية بين الثقافة المحلية والمعاصرة - مقابلة مع المعمار إلياس خوري
3
تأثير ناطحات السحاب على حياة قاطنيها
20230624_111737 (2222222
مقابلة مع المهندس باسم البرغوثي
111
مفهوم التجمع السكني و المفاهيم المرتبطة به
Scaled-prototype-of-lunar-dome-structure-printed-with-Contour-Crafting-CC-Credits
تقنية الطباعة المركبة ثلاثية الأبعاد في واجهات المباني
Screenshot 2024-11-22 105017
معايير وعمليات تخطيط التجمعات السكنية
Scroll to Top