المقابلة مع المهندس سامر مطر

سامر مطر: هو معماري وباحث في تخطيط المدن، ومدرب محترف في البرامج الهندسية، وأحد أبرز الأسماء الشابة التي تركت بصمة في المشهد المعماري السوري. تخرّج من كلية الهندسة المعمارية في جامعة دمشق، وتابع دراساته العليا في المعهد العالي للتخطيط الإقليمي. شارك في تأسيس عدد من المبادرات والكيانات المعمارية والثقافية، أبرزها مجلة «توينتي تو» المعمارية التي أسّسها، وجمعية «سوريون من أجل التراث العمراني» التي يشغل منصب المدير التنفيذي فيها، ومؤسس فريق بروفشنال للتدريب الهندسي، عمل في شركة core studios design agency, بالإضافة إلى عمله كمدير لمكتب SkyLine Design.
يصف شغفه بأنه بدأ منذ طفولته، من فضوله تجاه فهم الأشياء وطريقة تركيبها، وتطوّر داخل بيئة معمارية سورية ولّدت لديه ولدى جيله شغفاً أصيلاً بالمهنة. هذا الفضول تجاه البناء، وراحة الإنسان، وجودة المسكن، شكّل كما يقول الأساس الذي بنى عليه رؤيته المهنية والإنسانية في العمارة والتخطيط.

البدايات الأولى لتوينتي تو: حديث مع مؤسّسها سامر مطر:

المكان والتاريخ: لقاء افتراضي جمع دمشق وألمانيا – تشرين الثاني 2025

1. في البداية، لو نطلب منك أن تعرّفنا عن نفسك: من هو سامر مطر؟ كيف تصف نفسك اليوم، وما العوامل التي شكّلت شخصيتك كمعماري؟

أنا المهندس سامر مطر، خريج كلية الهندسة المعمارية في جامعة دمشق، وخريج المعهد العالي للتخطيط الإقليمي في الجامعة نفسها. مؤسس مجلة “توينتي تو” المعمارية وعضو في مجلس إدارتها سابقاً، وعضو مؤسس في جمعية “سوريون للتراث العمراني”، ومؤسس في فريق “Professional” للتدريب الهندسي. عملت مهندساً في شركة “Core Studio” لمدة ست سنوات تقريباً، وهي شركة معروفة ولها حضور في عدة دول مثل قطر ومصر والإمارات. كما كان لدي مكتبي الهندسي الخاص، وأنا أقيم حالياً في ألمانيا.
بدايةً، أرى أن البيئة المعمارية في سوريا بيئة غنية جداً، تمنح أي طالب عمارة شغفاً مضاعفاً، وتشعل داخله شيئاً جميلاً يكبر يوماً بعد يوم. من الأمور التي أثّرت بي كثيراً الفضول الذي كان لدي منذ صغري؛ فقد كنت دائم الاهتمام بمعرفة كيفية صنع الألعاب، الأدوات المستخدمة، والقطع المكوّنة لها. ومع الأيام، وعند دخولي كلية العمارة، تحول هذا الفضول نحو البناء ذاته: كيف بُني؟ هل هو صالح للسكن؟ هل هو مريح؟ ليس من ناحية الجمالية فقط، بل من ناحية حياة الناس داخله: هل هم مرتاحون؟ خصوصاً أننا نعاني في الكثير من البيوت من عدم الراحة بسبب مشكلات مثل العزل الصوتي والحراري وغيرها. هذه التفاصيل أثارت فضولي ودفعَتني لتطوير معرفتي شيئاً فشيئاً، حتى كوّنتُ خبرة حقيقية فيها.

2. كيف تصف لنا بدايات مجموعة "توينتي تو" المعمارية؟ هل كانت الفكرة سهلة التنفيذ حينها؟ وما الدافع الحقيقي وراء تأسيسها؟

أول ما دفعني لتأسيس “توينتي تو” هو أننا كطلاب عمارة لم تكن لدينا مراجع باللغة العربية؛ كانت قليلة جداً، والكتب غير متوفرة فإذا رغبتَ في قراءة موضوعٍ معيّن، ستجد أن المراجع العربية تكاد تكون معدومة، باستثناء المكتبة الوطنية (مكتبة الأسد سابقاً) ، وكان الحصول على كتاب منها أمراً شاقاً جداً، وغالباً لا يحتوي الكتاب على معلومات مفيدة. حتى مكتبة الكلية كانت موجودة شكلاً فقط، والدخول إليها كان يتطلب محاولات عديدة.
أما المعلومات المتوفرة على الإنترنت فكانت بسيطة ومكررة؛ نقلًا من منتدى إلى آخر. لهذا كان ضرورياً جداً أن نمتلك محتوى عربياً معمارياً جديداً ومفيداً ويؤثر في تفكير القارئ. بدأت بهذا من خلال ترجمة مشاريع معمارية، بهدف إثراء الفكر المعماري العربي، ومن هنا جاءت فكرة “توينتي تو”.
في البداية لم تكن الفكرة أن تكون مجلة مباشرةً؛ بل مرّت بعدة خطوات سبقتها، كانت عبارة عن تعاون بين الطلاب لمساعدة بعضهم. أول خطوة كانت توفير معلومات مترجمة لمشاريع معمارية، والفكرة كانت أن تكبر المجلة مع الوقت، ثم نبدأ لاحقاً بطرح أفكارنا الخاصة حين تصبح خبراتنا أكثر نضجاً وتستحق أن تتحول إلى محتوى.

3. ما أبرز التحديات التي واجهتكم في البدايات؟ وكيف تمكنتم من بناء هوية فكرية تطوعية واضحة للمجموعة؟

من الصعوبات التي واجهتنا في البداية أنه في عام 2013، كانت الثورة في أوجها، وكانت دمشق وريفها مسرحاً للمعارك، مما أثر على الطلاب الموجودين هناك. كما كان لدينا طلاب في حمص، حماة، وأرياف اللاذقية، وكانوا أيضاً متأثرين بالوضع الراهن، فكان أول تحدٍ يواجهنا هو صعوبة التفرغ للمجلة بسبب الظروف المعيشية القاسية للطلاب.
التحدي الثاني كان مرتبطاً بوضع الكهرباء، الذي كان سيئاً للغاية، إذ أننا كطلاب هندسة معمارية بحاجة ماسة للكهرباء لاستخدام الحواسيب وإنجاز المشاريع، وكان هذا الأمر يضعنا تحت ضغط كبير للالتزام بالمواعيد النهائية.
أما التحدي الثالث فكان متعلقاً بالسفر، إذ أن عددنا كان محدوداً جداً في البداية، وأي شخص يغادر أو يسافر يترك فراغاً كبيراً، وكان هذا يشكل عائقاً أمام استقرار واستمرارية العمل بالمشروع.

4. المجموعة بدأت كمجلة تضم ٢٢ معمارياً، واليوم أصبحت منصة عربية واسعة تضم عدداً كبيراً من المتطوعين. كيف ترى هذا التطور؟ وماذا يمثّل لك على الصعيدين الشخصي والمهني؟

بالنسبة لي، هذا التطور يُمثّل نقطة فخر كبيرة ودافعاً أساسياً، لأن أي مشروع يعمل عليه الشخص ويجتهد فيه يجد ثمرة مجهوده، خصوصاً إذا كان المشروع فريداً. أرى أن فكرة “توينتي تو” ليست بالضرورة فكرة جديدة ليس لها مثيل، لكن القدرة على جمع هؤلاء الأشخاص ومتابعتهم وضمان استمرارية عملهم وتطوير خبراتهم وتوسيع دائرة المستفيدين والمتابعين، كان دافعاً كبيراً بالنسبة لي. والحمد لله، نجاح الفكرة أعطاني دفعة قوية للاستمرار والمضي قدماً.

5. من السمات المميزة للمجموعة أن مجلس إدارتها يتغيّر كل عام. كيف ترى أثر هذا التغيير على تطور المجموعة وتجدّدها؟

أي أمر له إيجابيات وسلبيات إلى حد ما، والأهم أن تكون الإيجابيات أكثر بكثير من السلبيات. بالنسبة لي، تغيير أعضاء مجلس الإدارة له إيجابيات وسلبيات. أول الإيجابيات أنه يوفّر أفكاراً جديدة ويضفي روحاً متجددة على المجموعة. كما أنه يساعد الأعضاء على تجنب الملل والشعور بالإرهاق، خصوصاً أن العمل تطوعي وليس مأجوراً، كما يمنحهم حافزاً لتقديم أفضل ما لديهم طالما هم في موقع المسؤولية.
أما السلبيات، فهي أنه عند تغيير أعضاء مجلس الإدارة قد يأتي أشخاص لا يمتلكون الخبرة الكافية، ما قد يؤدي إلى تراجع المجموعة خطوة أو أكثر، وهو أمر سلبي للغاية. أرى أن الحل لهذه المشكلة هو وجود مجلس أمناء مكوّن من أشخاص لديهم خبرة سابقة في مجلة “توينتي تو” ومعايير محددة، بحيث يضمن مجلس الأمناء الحفاظ على خط المجلة وسياقها المعرفي، ويخفف من سلبيات أن يكون العضو في مجلس الإدارة لمدة سنة واحدة فقط. كما يتيح هذا المجلس التعامل مع أي أخطاء قد يرتكبها مجلس الإدارة من خلال اجتماع جمعية عمومية عاجل أو استثنائي أو من خلال انتخابات لمجلس إدارة جديد.

6. بعد مرور أكثر من عقد على التأسيس، كيف تصف مجموعة "توينتي تو" اليوم؟

الرحلة كانت رحلة جميلة جداً، ورحلة في تطوّر مستمر، لكن ليس بالشكل الكافي بصراحة. بالنسبة إلي، كنت أتمنى أن تصل “توينتي تو” إلى مدى أكبر. كما ذكرتُ في البداية، كانت لديّ رؤية أن نبدأ بترجمة المشاريع المعمارية إلى محتوى عربي كبداية، ثم نصل لاحقاً إلى مرحلة نقدم فيها أفكارنا نحن. ولهذا أرى أن توينتي تو ما تزال في هذه الخطوة الأولى؛ فنحن لا نرى بعد الأبحاث التي تُعدّ نتاجاً لعمل أعضاء “توينتي تو”، ولا نرى المجلة وقد أصبحت قادرة على استقبال المفكّرين والكتّاب وأصحاب الخبرات الكبيرة ليشاركوا تجاربهم المعمارية.
على سبيل المثال، قد يأتي أحد المتخصصين في ترميم المباني الأثرية ويتحدث في مقال أو أكثر عن خبرته، مرفقاً ذلك برسومات ومخططات وبيانات ونتائج. هذا النوع من المحتوى هو ما يشكّل قيمة مضافة “لتوينتي تو”، وهو ما أطمح إليه، وأعتقد أن الجميع يطمح إليه أيضاً، وهو أن ننتقل من شكل “توينتي تو” الحالي إلى مستوى أوسع وأعمق.

7.كيف ساهمت تجربة تأسيس وإدارة مجموعة "توينتي تو" في تشكيل رؤيتك للعمارة والتأثير المجتمعي؟ وهل غيّرت هذه التجربة من مسارك المهني أو طموحاتك الشخصية؟

كانت تجربة تأسيس مجلة “توينتي تو” بالنسبة إليّ نقطة تحوّل حقيقية. فقد انتقلت من مجرد طالب في كلية العمارة همه الأساسي هو ترفيع المواد، رغم أنّ لديّ شغفاً بالتميّز، إلى شخص يؤمن بأنّ العمارة عمل جماعي. فمجلة “توينتي تو” لا يمكن أن تستمر بشخص واحد؛ فهي تحتاج إلى أشخاص كُثُر يعملون في مجالات مختلفة، سواء في الإدارة أو التنظيم أو الكتابة أو التدقيق أو التصميم الغرافيكي أو النشر على وسائل التواصل الاجتماعي. وقد أكّد لي تنظيم وإدارة “توينتي تو” أنّ العمل في العمارة لا يمكن أن يقوم على الجهد الفردي وحده.
وعندما عملت في المكاتب المعمارية، سواء كمهندس أو عندما كان لديّ مكتبي الخاص، أدركت أن المهندس لا يستطيع أن يفرض منهجاً أو رؤية من دون أن يسمع آراء الآخرين، ودون التشاور والنقاش، ودون الإصغاء إلى الفئة المستهدفة وما تحتاج إليه. فنحن في مجلة “توينتي تو” كنّا نسعى دائماً لمعرفة ما يحتاجه طلاب العمارة الذين نعمل من أجلهم، وما هي المواضيع التي تهمّهم، ولا يمكن أن نتناول موضوعات بعيدة عن واقعنا في سوريا أو في العالم العربي. ولذلك كانت اهتماماتنا تتجه نحو إعادة الإعمار، والمباني التراثية، والاستدامة، لأنها الأقرب إلى واقع طلاب العمارة.
أثّرت هذه التجربة فيّ من جانبين: أنها أكّدت لي أن عملنا هو عمل جماعي أولاً، وأنه من الضروري ثانياً أن نفهم حاجة الفئة المستهدفة. وكما هو الحال في المجلة، كذلك الأمر مع العملاء في العمل المعماري؛ فلا يمكنني كمهندس أن أفرض رأيي على العميل، بل يجب أن أسمعه وأناقشه. قد يكون فهم بعض الأمور بطريقة خاطئة فأصحّحها له، وقد يقنعني هو أحياناً بأنه يحتاج بعض العناصر فعلاً، وأنه يجب أن تكون موجودة في التصميم.

8. مجموعة "توينتي تو" تُعد اليوم مساحة للتبادل المعرفي المعماري. برأيك، ما الذي يجعلها مختلفة عن المبادرات الأخرى في العالم العربي؟

أول ما يميّز “توينتي تو” هو استمراريتها. فلا أظن أنّ هناك مشروعاً معمارياً استطاع أن يمتد أو يستمر لمدة اثني عشر عاماً، ليس فقط كمجلة، بل أيضاً كفرق تطوعية معمارية، أو حتى كصفحة على موقع فيسبوك. لا أعتقد أن هناك صفحات معمارية عربية كثيرة وصلت إلى هذا العمر؛ ربما جهة أو جهتان فقط. أما نحن فوجودنا المستمر على مدى اثني عشر عاماً لعب دوراً مهماً في نضج “توينتي تو” وفِرَقها تدريجياً، وفي زيادة شعبيتها، وتوسّع قاعدة متابعيها. ففي البداية كان المتابعون من دمشق فقط، ثم امتدّوا إلى جميع المحافظات، إلى أن أصبح حضور المجلة على مستوى الوطن العربي.
أنا اليوم لم أعد عضواً في مجلس الإدارة، ولا أعرف الوضع الحالي بالتحديد، لكن خلال فترة وجودي كان يصلنا الكثير من الشكر والتعليقات من متابعين يستفيدون من المجلة في مجالات ومواضيع متعدّدة، ومن مختلف أنحاء الوطن العربي، وهذه نقطة مهمة جداً.
أما الجانب الآخر الذي يميّزها فهو تنوّع مخرجاتها. فقد بدأنا بمجلة، ثم أصبح لدينا كتاب دوري، ثم تعاونات مع جهات مختلفة مثل مؤسسة الآغا خان مشكورين ونقابة المهندسين أيضاً مشكورين إضافة إلى تعاونات مع كليات العمارة في عدة جامعات سورية، إلى جانب مشاركتنا في معارض مختلفة. هذا كلّه منح “توينتي تو” تميزاً إضافياً. وبصراحة، بالنسبة إليّ، وأظنّ لبقية أعضاء مجلس الإدارة والمتطوعين أيضاً، فالطموح ما زال أكبر إن شاء الله، والموضوع يحتاج بعدُ إلى جهد أوسع.

9. من خلال خبرتك، ما النصيحة التي تقدمها لأي معماري أو طالب يرغب بتأسيس مبادرة تخدم مجتمعه؟

أول نصيحة أقدّمها هي ألّا يستعجل أحد في إطلاق المبادرة. فعندما بدأتُ مجلة “توينتي تو” كما ذكرت سابقاً كانت هناك خطوات سبقت العمل نفسه على المستوى الشخصي. أول ما قمت به هو تقوية لغتي الإنكليزية؛ فكيف يمكن أن أبدأ فكرة كهذه من دون أن أكون متمكّناً من اللغة؟ بقيتُ نحو سنتين في معهد اللغات، بدءاً من مستوى الصفر في الإنكليزية إلى أن وصلت إلى مستوى متقدّم، وكان ذلك بشكل يومي. أذكر أنّني بدأت بداية عام 2011، ولم نطلق المجلة حتى عام 2013. لذلك، فإنّ أول نقطة هي أن يُؤسّس الشخص نفسه جيداً، وأن يُقيم مشروعه على أسس صحيحة، وألّا يتسرّع. لأنّ أي مشروع إذا لم يكن مدروساً مئة بالمئة، فالجهد سيضيع. قد ينطلق مرة أو مرتين أو ثلاثاً، لكنه سيتوقف لاحقاً عند ظهور فجوات كبيرة تجعله مشروعاً فاشلاً. ولذلك، فإنّ عدم الاستعجال هو الخطوة الأولى.
النقطة الثانية هي اختيار الشركاء المناسبين؛ أشخاص مؤمنون بالفكرة وإيجابيون. أنا لم أختر أوّل اثنين وعشرين شخصاً بشكل عشوائي. اخترت أولاً الأشخاص الذين كانوا يعملون معنا في مشروع “دليل طلاب كلية العمارة”، وكان عددهم أربعة أو خمسة أو ستة فقط، إذ كان كل واحد منهم ينسّق مادة أو مادتين. ثم اخترت الأشخاص الذين أعرف أنّ لغتهم الإنكليزية قوية من خلال احتكاكي بهم في مشاريع الكلية وحلقات البحث. كما اخترت الأشخاص المميّزين، الشغوفين، والذين لديهم رغبة حقيقية في مساعدة الآخرين.
أتذكّر أنّني تواصلت مع ثلاثة وعشرين شخصاً بالترتيب، بدءاً من الأشخاص الأكثر أهمية بالنسبة إلي، إلى أن وصلت إلى اثنين وعشرين شخصاً. وكان هناك شخصان اعتذرا في البداية، ثم عادا بعد عدة أعداد وانضمّا إلى مجلة “توينتي تو”. لذلك فإنّ النقطة الثانية التي أؤكّد عليها هي اختيار الأشخاص الكفوئين والقادرين على دعمك في مشروعك.

10. برأيك، ما أبرز العقبات التي تواجه طلاب العمارة في سوريا اليوم؟ وكيف يمكن لمبادرات مثل "توينتي تو" أن تسهم في تجاوزها؟

برأيي، أبرز العقبات التي يواجهها طلاب العمارة الشباب في سوريا اليوم تبدأ من التعليم الجامعي نفسه. فالتعليم المعماري العربي عموماً يعاني من ضعف المنهجية وعدم كفاية محتواه؛ إذ تعتمد المناهج على معلومات قديمة جداً لا تخضع لأي تحديث، خصوصاً في التعليم الحكومي. لا يمكن تجاهل وجود بعض الأساتذة الذين يبذلون جهداً كبيراً ويقدّمون محاضرات غنية بالمعلومات والصور الحديثة، وهؤلاء مشكورون ويعرفهم الطلاب جيداً، لكن في المقابل هناك عدد كبير من المدرّسين الذين ما تزال معلوماتهم على حالها منذ عشرين عاماً.
النقطة الأولى إذاً هي قِدم المعلومات، والثانية هي الحاجة الملحّة لمراجعة شاملة للمناهج: هل المعارف المطروحة كافية؟ هل فيها نقص أو زيادة؟ أما النقطة الثالثة فهي ما أسميه “التبحّر” غير المنضبط في مواد العمارة؛ فنحن ندرس خلال خمس سنوات التصميم والتخطيط والتنفيذ واللاندسكيب والديكور الداخلي، إضافة إلى المواد الداعمة لهذه المحاور. من الطبيعي أن يكتسب الطالب إلماماً عاماً، لكن الواقع أن الطالب يخرج مضغوطاً، مثقلاً بالمشاريع، وغير قادر على أن يعطي كل مشروع حقه. لا يملك الوقت ليعكس ما يتعلّمه في مواده النظرية على مشاريعه العملية، فتخرج الأعمال غير مكتملة، ولا تعبّر فعلاً عن جهوده أو تطوره.
يتنقّل الطالب من مشروع إلى آخر بسرعة، من دون أن تتاح له فرصة التطور التصميمي أو التخطيطي أو التنفيذي. تصبح العملية مجرد إنجاز ليلحق بالمشروع التالي. وقد علمت قبل أسبوع أن بعض الجامعات الخاصة، بسبب اعتمادها ثلاثة فصول سنوياً، تختصر مدّة المشاريع بشكل كبير، ما يزيد ضغط الطلاب النفسي، ويُشعر كثيرين منهم بعدم الرغبة في متابعة دراسة العمارة. كثير من زملائنا منذ السنة الأولى وحتى بعدها كانوا يصلون إلى مرحلة يقولون فيها: “ما علاقتي بهذه الكلية؟ لقد أخطأت عندما اخترت العمارة”.
صحيح أن كل الجامعات في العالم فيها صعوبات، لكن في كلية العمارة تحديداً نسبة كبيرة من الطلاب لا يجدون متعة في دراستهم، رغم أن العمارة يجب أن تكون قمة المتعة والشغف والفكر والفن. فالطالب يرى مشروعه يتحوّل إلى نموذج ثلاثي الأبعاد وإلى لوحات مطبوعة، وهذه تجربة لا تتوفر في كثير من الكليات النظرية. ومع ذلك، يتحول هذا كله إلى عبء بسبب كثرة المشاريع: أربعة مشاريع تصميم، وأربعة تنفيذية، ومشروعان في التخطيط، وكل ذلك ضمن سنة واحدة مؤلفة من فصلين. أضف إلى ذلك أن هذه المشاريع نفسها غالباً ضخمة.
أتذكر أنه في السنة الأولى، في الفصل الثاني، كان أول مشروع هو تصميم منزل من طابقين لشخص من ذوي الإعاقة، رغم أننا كنّا ما نزال “جدد” كما يُقال، وكان بالإمكان البدء بأساسيات أبسط: عناصر معمارية، فراغات صغيرة، تدريج منطقي. ومع مرور الوقت تكبر المشاريع بشكل تسارعي: مشروع مول، ثم مشروع على جرف صخري، ثم تجمّع عمراني… والسؤال هنا: هذا النوع من المشاريع، لو نُفّذ على أرض الواقع، كم معماري ومهندس سيحتاج؟ كيف يُطلب من طالب في سنته الأولى أو الثانية أن يعمل على مشروع لذوي إعاقة على منسوبَين متفاوتين وعلى جرف صخري؟
المشكلة الأساسية أن الطالب لا يحصل على الوقت، ولا على المعلومة الكافية التي تتيح له التعلم الحقيقي. لذلك أرى أن التعليم الجامعي في العمارة بحاجة إلى مراجعة شاملة على أكثر من مستوى، حتى يتمكّن الطالب من أخذ حقه، والتعلم فعلاً، والتخرج وهو قادر على أن يصبح مشروع معماري حقيقي في المستقبل.

11.ما المرحلة أو اللحظة التي شعرت فيها بأن "مجموعة توينتي تو" تجاوزت حدود الفكرة، وأصبحت تأثيراً حقيقياً وملموساً في الوسط المعماري العربي؟

بالنسبة للسؤال حول اللحظة التي شعرتُ فيها بأن “مجموعة توينتي تو” تجاوزت حدود الفكرة وأصبحت تأثيراً حقيقياً، فلا يمكنني القول إنها وصلت بعد إلى مستوى التأثير على “الوسط المعماري العربي” كلّه، لأن انتشارها اليوم في الوطن العربي يقتصر على حضورها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. فمن المفترض أن تكون حاضرة في مهرجانات ومعارض وتكريمات ومسابقات على امتداد الوطن العربي، وعندها فقط يمكن القول إنها حققت تأثيراً واسعاً. حالياً أرى تأثيرها واضحاً ضمن سوريا، وخصوصاً على مستوى الطالب.
لكي تتمكن “توينتي تو” من توسيع حضورها عربياً، فلا بدّ أن تكون أكثر وجوداً داخل سوريا نفسها. وهذا يتطلب تنظيماً أقوى. وفي رأيي، إذا لم تعمل “توينتي تو” بأسلوب مشابه للجمعيات التطوعية الأخرى، فلن تستمر. فالجمعيات الفاعلة عندما تكبر تتحول كوادرها الأساسية إلى موظفين، أي إلى أشخاص فاعلين موجودين دائماً ويقدمون ساعات عمل وجهداً كبيراً. هؤلاء يجب أن يكونوا أشبه بموظفين لضمان سير العمل بالشكل الصحيح. لذلك أرى أن الحل هو الدمج بين العمل التطوعي والعمل الاحترافي؛ أي توظيف أشخاص محترفين لبعض مفاصل العمل، إلى جانب كوادر تطوعية.
النقطة الثانية هي أن “توينتي تو” بحاجة إلى دعم كبير، وأول ما تحتاجه هو مقرّ ثابت. وجود مقرّ يجتمع فيه الأعضاء دورياً ويتعرّفون إلى بعضهم البعض ويقوّون علاقاتهم، أمر أساسي. في هذا المكان يمكن مناقشة المشكلات وإيجاد حلول لها، ويمكن أن يجتمع فيه مجلس الإدارة، كما يمكن استقبال المتطوعين الجدد وتعريفهم بالمجموعة. ومن خلال وجود مقرّ، يمكن إطلاق فعاليات أخرى غير المجلة: ورشات عمل، جلسات تطوير، حوارات، تبادل الكتب المعمارية… ولطالما تمنّيت وجود غرفة خاصة للكتب، فقد كان لديّ ما يقارب ثلاثين كتاب عمارة قبل سفري، وتمنّيت لو وجدت مكاناً في “توينتي تو” ليستفيد منها الآخرون، لأن كثيراً منّا يضطر لترك كتبه في البلد من دون أن يستفيد منها أحد.
وجود مقرّ ثابت “لتوينتي تو” هو في رأيي أهم نقطة لتطورها واستمراريتها. فعندما تريد التوسع في بلدان أخرى، يجب أن تكون ثابتاً وقوياً في مكانك أولاً. في فترات عديدة عُرض علينا أن نكون تحت مظلة “الأمان السورية للتنمية”، لكننا تهرّبنا من ذلك لأسباب معروفة، أبرزها أننا لا نريد أن تُفرض علينا أجندة معينة. أردنا أن تكون توينتي تو حرة، وأن تنبع أفكارها من داخلها من دون وصاية. وبسبب هذا الموقف تعرّضنا لضغوط ومحاولات عرقلة كثيرة، وبعضها جاء من داخل كلية العمارة نفسها.
في المقابل، هناك أشخاص قدّمونا كثيراً للأمام، ولهم فضل كبير لا يُنسى. وأود أن أشكر الدكتور يسار عابدين بشكل خاص، فقد ساعدنا كثيراً، وخلال فترة توليه عمادة كلية العمارة حققت توينتي تو قفزة كبيرة. منحنا غرفة خاصة داخل الكلية، وأقمنا فيها جلسات للبرامج الهندسية، كما نظمنا ورشات بالتعاون مع خريجي كلية الفنون الجميلة، وكانت معنا الدكتورة هلا قصقص وقد شاركت في ورشة للرسم الحر لطلاب العمارة.
لكن كما كان هناك داعمون، كان هناك أيضاً من حارب توينتي تو وتسبب بالإساءة لها. أذكر أنه في إحدى المرات كان لدينا ضيوف، وتعرّضت المجموعة للاستهزاء والعرقلة من قبل بعض الأشخاص القادمين باسم كلية العمارة.
أما على الصعيد الشخصي، فقد تعرّضت لمشكلة كبيرة بعد إصدار العدد الأول من مجلة “توينتي تو”؛ إذ تم اعتقالي داخل كلية الهندسة المعمارية. يبدو أن إصدار العدد الأول لفت الأنظار إليّ بشكل كبير، مما أدى إلى استهدافي من قبل طلاب وجهات معيّنة، ونتيجة لاعتقالي لم أستطع المشاركة في إصدار العدد الثاني.
ورغم أنّني المؤسس، وصاحب اسم المجلة ورؤيتها وشروطها، والشخص الذي جمع الملفات وأصدر العدد الأول، إلا أنّني لا أنكر أبداً فضل المهندسة شذى بغدادي والمهندسة زهار الجندي. فبعد اعتقالي، هما من تحمّلتا مسؤولية المتابعة واستمرّتا في المسيرة بكل جهد وإخلاص، ولولاهما لما استمرت “توينتي تو”. أنا أعتبرهما مؤسستين كاملتين لا يقلّ دورهما عن دور أي مؤسس. هما آمنتا “بتوينتي تو” بقدر ما آمنت أنا بها، وربما أكثر، ولم تفعلا ذلك انتظاراً لشكر من أحد.
أذكر أنني حين كنت معتقلاً وصلني خبر أن “توينتي تو” مستمرة، وكنت سعيداً جداً بأن الفكرة التي تعبت عليها وسهرت لأجلها لم تتوقف، وأنّ كل شيء يسير كما يجب. وهذا كان أكثر ما منحني شعوراً بالرضى.

12. كيف ترى دور مجموعة "توينتي تو" في نقل هوية العمارة العربية إلى الساحة العالمية؟ وهل يمكن أن تكون جسراً ثقافياً بين الشرق والغرب؟

بالطبع أرى أنّ لمجموعة “توينتي تو” دوراً مهماً جداً في نقل هوية العمارة العربية إلى الساحة العالمية، وخصوصاً أن لدينا اليوم عدداً كبيراً من الأعضاء السابقين المنتشرين في دول مختلفة مثل فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، وعدد من الدول الأخرى. هؤلاء تعلّموا لغات تلك البلدان، ومعظمهم يعملون اليوم في مجال العمارة، ما يمنح “توينتي تو” فرصة حقيقية لأن تكون جسراً ثقافياً ومعمارياً بين الشرق والغرب.
الفكرة هنا أننا قادرون على القيام بعملية “عكسية” في الإنتاج المعرفي، أي إصدار نسخ أو كتب دورية لا تُترجم من اللغات الأجنبية إلى العربية فقط، بل أيضاً تُنقل فيها المعرفة من العربية إلى لغات أخرى. فالكتابات المتوفرة عن العمارة العربية في المراجع الأجنبية قليلة نسبياً؛ وبحسب معرفتي، هناك بعض المحتوى المتوفر باللغتين الفرنسية والإنكليزية، أما في اللغات الأخرى فهو شبه معدوم. وهذا يفتح أمامنا فرصة مهمة، خاصة مع وجود أعضاء من “توينتي تو” موزعين حول العالم، يستطيعون المساهمة في هذا الجهد.
ومع ذلك، فإن تنفيذ هذا المشروع يحتاج إلى جهد كبير، وهمة عالية، بالإضافة إلى تراخيص ضرورية، لأن العمل في بلدان الخارج يتطلب إجراءات رسمية لا يمكن تجاوزها. ومع توافر هذه العناصر، يمكن “لتوينتي تو” بالفعل أن تكون جسراً ثقافياً يحمل العمارة العربية إلى العالم.

13. ماذا تعني لك "توينتي تو" اليوم؟ وإن اختصرتها بكلمة واحدة، فما هي؟

أرى في “توينتي تو” أمل لمستقبل العمارة العربية. وأتمنى، إن شاء الله، أن نتمكّن من خلال “توينتي تو” أن نصنع فرقاً حقيقياً في العمارة العربية.

في ختام هذا اللقاء، يظهر لنا كيف شكّلت رحلة المهندس سامر مطر رؤيته الفريدة للعمارة، وكيف أن شغفه بالعمل الجماعي والإيمان بأهمية المجتمع في العملية التصميمية جعله مؤسساً ومُلهماً لمبادرة “توينتي تو”. من خلال هذه التجربة، نتعلم أن العمارة ليست مجرد تصاميم ومباني، بل هي أداة للتغيير الاجتماعي والثقافي، وأن الإصرار والمثابرة ومشاركة الأفكار، يمكن أن تصنع فرقاً حقيقياً ومستداماً.
يبقى تأثير المهندس سامر مطر ومبادرة “توينتي تو” شاهداً حياً على قدرة المبادرات المعمارية على تجاوز حدود الأفكار لتصبح مؤثرة وملموسة في حياة الطلاب والمهتمين بالعمارة في سوريا والعالم العربي. إن هذه الرحلة تلهم كل من يسعى لجعل العمارة منصة للتعلم والإبداع والتغيير الإيجابي.

جلسة مناقشة رسالة الماجستير
حفل الذكرى السنوية الثانية لانطلاق مجلة "توينتي تو" برعاية كلية الهندسة المعمارية
بعد تحكيم رسالة الماجستير مع أعضاء "توينتي تو"
الحفل الخاص ببداية عام 2018 لجميع أعضاء مجموعة "توينتي تو"
اجتماع تحضير لحفل الذكرى السنوية الرابعة لمجموعة "توينتي تو"
زراعة شجرة "توينتي تو" خلال حفل الذكرى السنوية الثانية لانطلاقة مجلة توينتي تو برعاية كلية الهندسة المعمارية

معرض الصور:

فريق الإعداد:

إعداد: م. ماريسّا حمامجي

نشر إلكتروني: رولان علي حسن

مقالات قد تعجبك

Capture
فيلا المستقبل
Angelo-Lopes_01
برنامج إعادة تأهيل أحياء سكنية (الرأس الأخضر)​
2
3 فيلات في جزيرة كيا
image (1)
تحسين وادي ايسي (المغرب)
akso_masterplan
المنازل القابلة للتوسع
تظهر الصورة الشكل الجبلي للمبنى
أبراج المستقبل
Scroll to Top