تاريخ التجمعات السكنية History of residential sites
المقتطف:
من أين بدأنا؟ وكيف تجمعنا ومتى؟ ما الذي دفع أجدادنا إلى السكن بجوار بعضهم البعض ؟ ولماذا تحتم علينا منذ ذلك الحين أن نعيش في دول وشعوب تتعاون وتتفاعل بين بعضها البعض وتشكل ما يسمى بالمجتمعات؟ في سطور هذا المقال تكمن أجوبة تلك التساؤلات..
المقدمة:
لربما كان الجوار لا يقل أهمية عن المنزل بحد ذاته، إننا نعيش بجوار بعضنا بعضاً منذ الأزل، فالتجمعات السكنية هي المكان الذي يحتضن الجميع وينبض بروح الجماعة منذ القدم.
لماذا ندرس تاريخ التجمعات السكنية؟
لأننا من خلال هذا التاريخ نكتشف التحديات والمبادئ المستمرة التي تواجه تخطيط المواقع منذ القدم، كما يوضح لنا العلاقة بين المواقع السكنية والمكونات غير السكنية وكيفية تعايش هذه المواقع بخصوصيتها مع الفراغات العامة.
لماذا ندرس تاريخ التجمعات السكنية؟
ظهرت الحضارات الأولى في أودية الأنهار الرئيسية، حيث تتمتع السهول الفيضيّة بتربة غنية، وتؤمن مياه الأنهار الري للمزروعات وكذلك يسهل الانتقال ضمنها. هذه الحضارات الأساسية تطورت حضرياً دون التأثر أو البناء على أنقاض حضارات سابقة لها، أما الحضارات اللاحقة إما استعارت عناصر من حضارات أخرى أو بنيت عليها أو دمجت (من خلال الغزو) حضارات أخرى. نظراً لأن الحضارات التأسيسية نشأت بشكل مستقل ، فهي مفيدة بشكل خاص للمؤرخين وعلماء الآثار الذين يرغبون في فهم كيفية تطور الحضارة لأول مرة.

منطقة كاتالهوك (Catalhoyuk):
تعد من أقدم المستوطنات البشرية في العالم، توجد في جنوب الأناضول ويقدر العلماء نشأتها منذ العصر الحجري الحديث والعصر النحاسي وذلك من 7100- 5700 قبل التاريخ أي حوالي 7000 قبل التاريخ .

الأسباب التي دفعت الناس إلى العيش في تجمعات سكنية (دراسة حالة منطقة كاتالهويوك):
قبل آلاف السنين وفي منطقة كاتالهويوك نفسها عاش البدو المتنقلون في تلك الأرجاء ومعظم مناطق الشرق الأقصى، حيث اصطادوا الغزلان والأغنام والماشية وجمعوا الأعشاب البرية والفواكه. ولكن السؤال الذي يطرحه العلماء هو ما الذي دفع تلك الشعوب منذ حوالي 14000 عام إلى الاستقرار كمجتمعات دائمة في منازل حجرية والاعتماد على الزراعة،إذ تشير الدراسات إلى أن حوالي 800 شخص استقروا في كاتالهويوك لأكثر من ألف عام وبنوا المساكن المتقاربة. ويصف أحد علماء الآثار المدعو هودر (Hodder) ذلك التغيير بأنه نقطة تحول رئيسية في تطور البشرية.

لكن ذلك الموقع لم تكتمل أبحاثه بعد؛ فلقد توقف عالم الآثار البريطاني جيمس ميلادن (James Mellaart) عن أبحاثه بالمنطقة عام 1965 بعد أن كان قد بدأ منذ عام 1958 وبقيت بذلك المنطقة مهملة حوالي 30 عام.
النظريات الحديثة التي تفسر سبب التجمعات:
يُرجع بعض العلماء السبب وراء استغناء البشر عن حياة البدو وتأسيس القرى والاعتماد على الزراعة إلى التغيرات المناخية البيئية التي حدثت منذ حوالي 1500 عام، عندما انتهى العصر الجليدي الأخير وأصبحت الزراعة ممكنة. بينما يعتقد هودر (Hodder) بأن سبب الاستقرار هو تغييرات في علم النفس البشري والإدراك ولاسيما عند ظهور مفهوم الآلهة الأم.
لا يتفق جميع علماء الآثار مع هودر( Hodder) في استنتاجاته ولكنهم يتفقون جميعاً على أن ثورة العصر الحجري الحديث ونشوء المجتمعات قد غيرت البشرية إلى الأبد منذ بداية ظهور أولى معالم التحضر وهي الزراعة، ويمكننا القول بأن التطور الذي نعيشه اليوم من ناطحات سحاب وغيرها ما هو إلا ثمرة متطورة من جهود مهندسي العصر الحجري الحديث في بناء المنازل الحجرية، وكذلك الدين المنظم والكتابة وعدم المساواة الاجتماعية والانفجارات السكانية وكل هذه التحديات الحديثة ليست إلا نتيجة متطورة لقرار شعوب العصر الحجري الحديث العيش معاً في مجتمعات، و هذا ما غير البشرية إلى الأبد من غير رجعة..
نظرية ظهور التجمعات البشرية بسبب الزراعة:
منذ الظهور الأول للبشرية وحتى حوالي 10- 15 ألف قبل الميلاد؛ كان اعتماد الإنسان الكلي على الصيد للحصول على مصدر الغذاء أو قطف الثمار المتوافرة، فكان لابد له أن ينتقل باختلاف الفصول من مكان إلى آخر سعياً للحصول على الغذاء.
ومع تطور التفكير البشري ظهر مفهوم تدجين الحيوانات وزراعة المحاصيل كوسيلة دائمة للحصول على المؤونة بدلاً من التنقل بين عدة أماكن، حيث وفر التدجين حيوانات أكثر قوة وملاءمة للاستهلاك البشري، كما أن الزراعة قدمت للبشرية محاصيل عدة على مدار العام وبالتالي يمكن القول بأن هذين الأمرين أتاحا للبشرية الاستقرار وبالتالي البدء بالتجمعات البشرية.
نظرية هودر:
إن فكرة هودر (Hodder) بأن المجتمعات نشأت بسبب تغيرات في علم النفس استلهمها من أفكار خبير عصور ما قبل التاريخ الفرنسي جاك كوفين (Jacques Cauvin)، الذي عمل في قرية المريبي شمال سوريا، حيث وجد من خلال التنقيبات رواسب تحتوي على قرون ثور بري. ومع تقدم التنقيب عثر على تماثيل إنسائية دلت على أن ثورة الرموز سبقت ثورة العصر الحجري الحديث مما أدى إلى معتقدات جديدة حول العالم خصوصاً بعد مسح عدة مواقع أثرية في أوروبا تعود إلى العصر الحجري الحديث، حيث وجدوا رسوماً تدل على الموت والحيوانات البرية وجميع مخاوف البشرية في ذلك الوقت مجسدة برموز مختلفة.
ومن خلال هذا البحث المطول الذي أُجري حول العالم؛ توصل هودر أن سكان كاتالهويوك اجتمعوا لأسباب أخرى غير الزراعة وهي القيم المجتمعية المشتركة مثل الدين والثقافة.

الزراعة والتجمعات السكنية (بعض الأدلة التي تدعم نظرية هودر):
قبل حوالي 14000 عام بدأت أولى المستوطنات المبنية بالحجر بالظهور في الجزء الجنوبي من بلاد الشام، ولكن أول زراعة موثقة كانت قبل 11500 عام وذلك يعني بأن إنشاء هذه المجتمعات كان نقطة تحول، لكن الاعتماد على الزراعة لم يكن سوى إضافة على تلك المجتمعات وليس شرطاً لنشوئها.

ثورة العصر الحجري الحديث:
في عشرينات القرن الماضي أطلق عالم الآثار الأسترالي في جوردون تشيلد (V. Gordon Childe) مصطلح ثورة العصر الحجري الحديث ليدل على استقرار الجماعات بفضل الزراعة وذلك منذ حوالي 11500 عام أي مع نهاية العصر الجليدي، حيث اعتقد أن الأرض أصبحت أكثر دفئاً وجفافاً فكان لابد للبشر أن يستقروا حول الأنهار والواحات ومصادر المياه الأخرى، ولكن علماء الجيولوجيا أثبتوا أن اعتقاده كان خاطئاً، لأن المناخ أصبح في ذلك الوقت أكثر رطوبة.
من التفسيرات الأخرى لثورة العصر الحجري الحديث فرضية ” الحافة” أو ” الهامشية” التي اقترحها عالم الآثار الرائد لويس بينفورد (Lewis Binford) في الستينات، والتي تنص على أن البشر الأوائل كانوا يعتمدون على الصيد كمصدر غذاء أساسي ويجتمعون في مناطق الصيد، مما دفع بعض الناس إلى الانتقال إلى الهامش أو الحافة، حيث لجؤوا إلى تدجين النباتات والحيوانات، ولكن هذه الفكرة كانت مخالفة للأدلة الأثرية الحديثة إذ أن التدجين بدأ في مناطق الصيد والتجمع وليس في الهوامش.

التحضر بين الماضي والحاضر:
لقد تجاوزت المساكن الدائمة مع الزمن فكرة توفير المأوى والحماية فقط، فقد أصبحت مكان للراحة والسكينة، ومن هذه الفكرة بدأ يتبلور ما يعرف باسم البيئة الحضرية، وهكذا بدأت المشاكل الاجتماعية والصحية العامة التي كانت تزداد مع ازدياد العدد.
في مساكن ما قبل المدن -أي ما يشبه الأرياف حالياً- سمح التركيز المتناثر في تخفيف هذه المشاكل والابتعاد عن التلوث البشري، ومع ظهور المدن تقاربت المساكن بشكل كبير وتفاقمت مشاكل التلوث والضجيج والازدحام.
يمكننا اعتبار عملية التحضر عملية بطيئة نسبياً وذلك قبل أن تتسارع في القرن التاسع عشر، حيث كان 3% فقط من السكان يقطنون في المدن التي يبلغ عدد سكانها 500 نسمة فقط، وتزداد النسبة في عام 1900 إلى 13.6% و إلى 29.8 % في عام 1950، ثم نما سكان الحضر بشكل متسارع، وبحلول عام 1975 كان أكثر من واحد من كل ثلاثة من سكان العالم يعيشون في بيئة حضرية، في عام 1997 أصبح يعيش واحد من كل اثنين تقريباً في المناطق الحضرية، ونجد اليوم أن البلدان الصناعية 75% من سكانها يقطنون المدن وتتوقع الأمم المتحدة أن يرتفع عدد سكان الحضر في السنين القادمة بشكل ملحوظ.

وما نتوصل إليه في النهاية أننا نحن البشر بحاجة إلى بعضنا بعض كي ننمو ونتطور ونلبي حاجاتنا الإنسانية، وأن تجمعنا الذي بدأ على شكل جماعات صغيرة منذ الأزل ليس إلا مدننا المتطورة الآن، ففي الجماعة يحدث التقدم والازدهار وتنمو الحضارات ويغتني التاريخ، ومهما كانت الأسباب التي جمعت أسلافنا معاً يكفي أن نحافظ على إرثهم و نبقيهم معاً في الموت كما في الحياة.
المراجع:
فريق الإعداد:
إعداد: م. أمنية شيخة
التدقيق اللغوي:دنيا المير
نشر إلكتروني: وفاء الشيخ