من الشرق الأوسط إلى الغرب، عن الأكاديمية والعمل لقاء مع د. امال اندراوس
د. امال اندراوس مصممة معمارية مستقرة في مدينة نيويورك. تشغل منصب عميدة مدرسة كولومبيا للعمارة والتخطيط والترميم كما أنها المؤسس المشارك مع زوجها دان وود، للمكتب المعماري المتمركز في نيويوركWorkAc” “.
اندراوس تكرس نفسها لأبحاث التصميم وكتاباتها قد ركزت على التغيير المناخي وتأثيره على العمارة، بالإضافة لتساؤلات حول التمثيل المعماري في عصر الممارسة العالمية. لقد درست في عدد كبير من المؤسسات من ضمنها مدرسة العمارة في جامعة برينستون ومدرسة العمارة في جامعة هارفارد والجامعة الأمريكية في بيروت. كما تشغل منصب في مجلس إدارة رابطة نيويورك المعمارية وفي اللجنة الاستشارية لكلية الهندسة والعمارة في الجامعة الأمريكية في بيروت. وعينت زميلا فخريا في المؤسسة الملكية للعمارة في كندا عام 2021.
كيف أثرت نشأتك في العالم العربي على أفكارك؟ وكيف ظهر ذلك في تصاميمك وعملك؟
أعتقد أن الصعوبات التي تواجهنا في الشرق الأوسط وتاريخنا هي أمور غير معروفة بحق في الغرب. لقد نشأت بين لبنان والمملكة العربية السعودية، وربما مساري الخاص يحاكي تلك التحولات في القوى والثقافة والنفوذ، من المدن الأقدم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مثل بيروت والقاهرة ودمشق إلى دول اقتصاد البترول المنبثقة حديثاً، إنني مهتمة في انخراط المنطقة في الحداثة، الحداثوية، والاشتراكية من خلال العمارة، كان هناك طموح وقد تم التعبير عنه بقوة من خلال العمارة التي صُممت لتجسد رغبة وتطلعات هذه الشعوب وتشكيلاتها التي أجهضت بسبب الحروب والتحول الناتج بين جزء من المنطقة وآخر.
والدي -والذي كان معمارياً ورساماً في بيروت-هاجر إلى مدينة الخُبَر -في المملكة العربية السعودية-كالعديد من الناس في ذاك الوقت كما في وقتنا هذا، وحركة الهجرة هذه دعمت صعود التوجهات المختلفة في المنطقة. لدي اهتمام كبير في دمج هذا الأمر في أعمالي، ليس بالمنحى الجمالي، بل بمنحى فكري (أيديولوجي)، وإعادة التفكير في تلك اللحظة التي كانت العمارة فيها ذات طموح.
أنا مهتمة بشكل خاص في الحداثة كما أعرب عنها في منطقتنا، تلك كانت نقطة تركيزي ليس فقط في أبحاثي بل أيضاً في ممارستنا المعمارية في WORKac، يثير اهتمامي كيف كانت العناصر تتحور لتناسب المناخ والبيئة. وأظن أن الاحتكاك بين القضايا والسياقات الثقافية المحلية والمحددة بشكل كبير والأسئلة الأكثر عمومية عالمياً حول البيئة هو أمر لا يزال موجود بقوة في الشرق الأوسط كما أعتقد، وهو أمر قد أثر في أعمالي.
كيف أثر كونك عميدة في إحدى أكبر المدن وأكثر الجامعات ازدحاماً بمختلف الطلاب والناس من مختلف الخلفيات، على فكرك وتجاربك؟ وكيف استطعت التوفيق بين الممارسة التصميمية والعمل الأكاديمي؟
كنا أنا وشريكي “دان” منجذبين إلى نيويورك، وانجذبت تحديداً إلى جامعة كولومبيا، بسبب وجود أناس من كافة أنحاء العالم. كانت الجامعة -بالنسبة لي على الأقل- الجامعة الأقل أمريكيةً على الإطلاق -على الرغم من أن هذا ربما لم يعد صحيحاً بعد الآن.
لقد كانت دوماً مرحبةً بشكل كبير، يحضر الناس قصصهم الشخصية ووجهات نظرهم المختلفة والمتعددة معهم، و أؤمن أن ذلك يخلق حواراً ونقاشاً مذهلاً ،حيث بإمكاننا أن نطرح تساؤلات حول العمارة وكل اختصاصات البيئة المبنية من وجهات نظر مختلفة، فعلى سبيل المثال، في الولايات المتحدة يوجد تاريخ من الشوارع والأراضي مختلفة المناسيب، والتي فشلت وساهمت في عزلة المدن والناس، ولكن في آسيا على الصعيد الآخر، حيث بإمكاننا أن نجد شكل المدينة الشبيه بثلاثي الأبعاد حيث يتحرك المرء صعوداً ونزولاً باستمرار، نجح هذا النظام بشكل كبير. لذا، يتساءل المرء، لماذا تنجح بعض الاستراتيجيات في مكانٍ ما وتفشل في غيره، وهذا مثال واحد فقط. أعتقد بالنسبة لي، كعميدة في الجامعة، أنه من المهم جداً أن ندعم تلك الاصوات ووجهات النظر المختلفة وأن نبتعد عن السردية ذات المركزية الغربية فيما يخص تاريخ وممارسة العمارة.

لقد قمنا بالكثير من العمل نحو هذا الاتجاه، خصوصاً في السنتين الأخيرتين، وكنا أيضاً نتساءل إن كنا نقوم بما يكفي لكي نكون ذوي شمولية، وهذا أمر بالغ الأهمية في جامعتنا، وهذا هو الجزء الذي أعتقد بأنه الأكثر أهمية وإثارة للمساهمة به كجامعة مختصة بتدريس العمارة. في ممارستنا في WORKac، من المهم لنا وجود أناس من كافة أنحاء العالم ومن خلفيات ثقافية مختلفة والذين يحملون معهم تجارب متنوعة و التي بدورها تؤثر في الطريقة التي نعمل بها.
لقد كان التوفيق بين التزاماتي الاكاديمية وممارستي الاحترافية أمراً صعباً، وأعتقد أنني استطعت التوفيق بأكبر قدرٍ ممكن. إن هذا الطريق ليس خطيّاً، أي أننا لا نستطيع تقديم نفس كمية الانتباه والجهد لكلا الجزئين الأكاديمي والعملي. أخذ منصبي كعميدة في الجامعة خلال السنوات الثلاث الأولى الجزء الأكبر من وقتي، ولهذا كنت أقل انخراطاً في عمل المكتب، ولكن في السنوات الرابعة والخامسة حين كانت الأمور قد وضعت في نصابها، أحسست أنني وصلت إلى مرحلة ما من التوازن. ولكن السنة السادسة -حين انتشرت جائحة -COVID-19 كانت بنفس كثافة السنة الأولى، أو أكثر.
نحن نتخيل أن الأمور يجب أن تكون متساوية طوال الوقت، ولكن هذه ليست دائماً حقيقة الأمر. في رأيي، أعتقد أنه من الممكن أن نوازن الشقين الأكاديمي والعملي ولكن ليس بشكل جيد لوقت طويل، ولذلك بالنسبة لي، كان الأكثر أهمية أن ألتزم بمهمتي كعميدة بشكل مكثف لمدة سبع سنوات، بدل أن أقوم به بشكل أخف لفترة أطول من الزمن.
في نهاية هذا العام سوف أتنحى عن منصبي كعميدة في جامعة كولومبيا، بعد سبع سنين ونصف،ثم سوف أشغل منصب مستشارة للقضايا المتعلقة بالمناخ في مدرسة المناخ في جامعة كولومبيا، وسوف أتابع التدريس في مدرسة كولومبيا العليا للهندسة المعمارية والتخطيط والحفظ (GSAPP) لأنني أشعر برغبة كبيرة في العودة إلى التدريس، والتركيز في نفس الوقت بشكل أكبر على الممارسة العملية.
نحن نشهد فجوة كبيرة في الوسط المعماري بين الجزء الأكاديمي والجزء التطبيقي، خصوصاً في العالم العربي، كيف بإمكاننا أن نسد هذه الهوة؟
أعتقد أنها إشكالية حقيقية للأسف، وأنا أعلم أن هذا الانفصال يضر أقسام العمارة في الجامعة الأمريكية في بيروت AUB، أو في لبنان بشكلٍ عام. وهذه الأسئلة بدأت بالظهور في الولايات المتحدة أيضاً، ولكن ما يميز الأكاديميا في الولايات المتحدة عندما يتعلق الموضوع بالعمارة والعمران، أن الممارسة كانت بشكل تقليدي أساسية في تشكيل هذه المدارس كمدارس وجامعات احترافية، الأسئلة الحرجة والنقدية التي تتعلق بمستقبل العمارة تأتي من الممارسة بقدر ما تأتي من التاريخ أو النظريات، وهذا التوازن مهم لتلك المدارس.
هذا أحد الأسباب التي تجذب الطلاب إلى جامعة كولومبيا، نحن نشجع الحوار بين كلٍ من النظري الأكاديمي، والعملي التصميمي، يمكننا تطوير النظريات من وجهة نظر ممارس بقدر ما يمكننا الممارسة من خلال الانخراط في النظريات والتاريخ، أعتقد أن هذه التغذية الراجعة “feedback loop” مهمة جداً.
تلعب الأموال أيضا دوراً مهماً في تشكيل الأكاديميا كما في تشكيل صناعة البناء، فهي ليست بالضبط فاضلة ومستقلة عن السياسة و/أو الاقتصاد، على الرغم من أنها بجوهرها تسعى إلى ذلك. لا أعتقد أن المؤسسات بنواتها بريئة، ولا أرى أن العالمين -العالم الأكاديمي ولنقل “العالم الحقيقي” منفصلان جداً، هما في الواقع لا يعملان بطرق مختلفة. إلا أنه من بالغ الأهمية لنا كمعماريين أن نجد طرقاً مختلفة للعمل وفقاً للظروف التي نتعرض لها، ومحاولة إعادة تشكيلهم أو مقاومتهم، أعتقد أن هذا جزء مما يجب علينا فعله. ومن المهم أيضاً، الاشتراك والانخراط في هذه العملية وليس فقط اتخاذ موقف والنقد عن بعد. ومع ذلك، لا يجب على المعماري أن يقبل بكل شيء، لا أعتقد أن العمارة هي خدمة بشكل كامل حيث نقبل فيها بكل ما يريده العميل من دون اتخاذ موقف معين، مهما كان الأمر يبلغ من صعوبة.
لقد قمت بنشر مجموعة متنوعة من الكتب التي تغطي العديد من المواضيع المختلفة، هل بإمكانك أن تحدثينا عن بعضهم؟ ولكن قبل ذلك، ما أهمية كتابة العمارة؟ وهل تعتقدين أن هذه المنشورات قد تكون بمثابة دعوة للنهوض بالعمل أو بيان (manifesto)؟
اؤمن أن هنالك ثلاثة طرق لتقدم العمارة: الكتابة والكلام، والرسم، والبناء – وكل واحدة من هذه الطرق بأهمية الأخريات. أعتقد أنه بالنسبة لي ولشريكي، الكتابة هي المكان الذي نعمل فيه من خلال الأفكار والمواقف وتوضيح المقاصد.
يمكن القول أننا مهووسين بالتاريخ إلى حد بعيد، ونحنا دائما في محاولة لإيجاد سرديات تاريخية بديلة والعمل على خلق الأفكار، وأعتقد بحق أن الكتابة تخلق مساحة من الحرية للتفكير بشكل مختلف بما يخص الأمور البديهية وقلبها رأساً على عقب، وفتح مساحات جديدة للخيال واتخاذ الخطوات.
الكتابة حقاً جزء مهم لإحراز تقدم في الأسئلة المهمة معمارياً وعمرانياً وتصميمياً، ومن المهم أيضاً الكتابة ليس فقط من وجهة نظر المؤرخ أو المنظر، بل أيضاً من وجهة نظر المعمار، والمصمم، والممارس.
كتابنا الأول كان 49 مدينة (49 Cities). عندما بدأنا في مجال التدريس منذ عشرين عاماً تقريباً، أدركنا أننا نملك كل التكنولوجيا المطلوبة لنتصدى للتغير المناخي حتى حينذاك، ولكن أين الأفكار؟! لذلك كنا مهتمين جداً في إعادة قراءة المدن الاستشرافية/المتبصرة من خلال منظور بيئي، ورؤية كيف أننا بالإضافة للمعلومات والنظم، بحاجة للأفكار. ولذلك كان الكتاب يحتوي على كلٍ من المكونات المحسوبة التي تشكل المدينة على الجزء الأيسر، (كمية المياه التي تحتويها، ومساحة المساحات الخضراء ونوعها، ونوعية البنى التحتية)، وفي الجزء الأيمن، يوجد المخطط الذي يجسد بحقيقته فكرة ورؤية للمجتمع، لقد أحببنا التوتر والتساؤلات التي يثيرها، هذه هي النية وراء الكتاب.

أما كتاب أعلى الرصيف-المزرعة (Above the Pavement – the Farm) فهو يروي قصة مشروعنا المزرعة العامة 1 (public farm 1) -والذي كان عبارة عن نصب في متحف الفن الحديث (MOMA/PS1)- وهو مزرعة عضوية مبنية من أنابيب من الورق المقوى، المشروع حقاً هو نداء للمبادرة، نداء للمعماريين لإعادة الانخراط في التساؤلات العمرانية والتساؤلات عن البنى التحتية وإعادة ربطهم بالعمارة و بالأفكار حول أشكال جديدة للتعاون الجماعي. يخاطب الكتاب الفكرة الأشمل والأوسع عن الغذاء والمدن ونوع الشبكات التي يمكن لصناعة وبناء العمران خلقها، وهذا ما نطمح اليه.


كتابنا الثالث العمارة والتمثيل في المدن العربية (Architecture and Representation in the Arab Cities) يعود بنا إلى بعض الأفكار عن كيفية تعقب انخراط المنطقة في مسائل الحداثة من خلال العمارة، والسؤال عن التصوير الاختزالي لها الذي نراه عن طريق العمارة خاصة في الإمارات العربية المتحدة. الكتاب يصف التوتر في مدن مثل بيروت ودمشق وبغداد، وتراجع هذه المدن مع صعود مدن اقتصاد النفط، والبحث في مكان وكيفية تأثير المعماريين في هذا التحول. ولكنني أصبحت عميدة في أثناء عملي على هذا الكتاب ولذلك أصبح الآن أقرب إلى مجموعة مقالات بحثية تدعم أصواتاً أخرى، وقد كانت بالفعل شبكة رائعة جداً من الباحثين والممارسين الذين أنجزوا أبحاث ذات قيمة بالفعل. أصبح الكتاب نوعا ما التقاء مجموعة من الزملاء الذين حاولوا أن يفكروا في هذه المنطقة بطريقة مختلفة.

على الرغم من أن جيلنا يكره البيانات (manifestos) لأن فترة الستينات من القرن الماضي كانت مليئة بتلك البيانات والمواقف التي بمعظمها لم تأتٍِ بنتيجة، لكنني سأقول بأن الكتابة غالباً هي شكل من أشكال البيانات/المواقف (manifesto)، كأن نقول إننا بحاجة إلى النظر إلى الامور بطريقة مختلفة.
كمعمارية -وليس كباحثة بالضرورة-أشعر بقوة أنه يوجد ما يهمنا هنا في فعل الكتابة كمعماريين، لأن الكتابة وسيلة مساعدة على تركيز رغباتنا وكيفية وصولنا إلى حيث نظن أنه بالغ الأهمية، لذلك بإمكاننا ربما أن نصفهم كحجج ومناقشات إن لم يكونوا بيانات، نقاشات لوجهات نظر أو مواقف معينة نتبناها أو نفككها أو نستكشفها بشكل أعمق.
هل يحتوي كتاب 49 مدينة (49 cities) مدنناً عربية؟ كيف تختلف هذه المدن عن المدن في المناطق الأخرى؟
أعتقد أننا بحاجة إلى جزء ثانٍ من كتاب 49 مدينة(49 cities)، لأنه -مع استثناءات قليلة-كان يتمحور حول دراسة المدن الغربية، ويتحدث عن تاريخ المدن الاستشرافية في الغرب، كان هناك بعض الاستثناءات، لكن بصدق، ليس بالقدر الكافي، وأعتقد أن هذا من الممكن أن يكون من الانتقادات الجيدة للكتاب. لكن الواقع أن فكرة التخطيط وأن نكون استشرافيين هي فكرة غربية المنشأ، ربما ليس تماماً، ولكنها كانت نوع من الرغبة بمدينة فاضلة، والمدن العربية لم تنشأ هكذا. المدينة الرومانية على سبيل المثال هي مدينة عضوية المنشأ احتلت أجزاء كبيرة من حوض المتوسط وشمال أفريقيا، كمدن بيروت ودمشق مثلاً، وقد أخذنا مدينة من شمال افريقيا -تيمقاد- لتصور المدن الرومانية، والتي كانت، كما ذكر، مدينة عضوية المنشأ. ولكن بشكل عام نعم، يتمحور الكتاب حول الغرب وأتمنى أن تسنح لي الفرصة أن أغوص أكثر في المدن العربية، وهذا أحد أسباب عودتي الى التدريس، لأنني أؤمن أنني أود أن أتعمق أكثر في هذه الجمل من التساؤلات.

تعرفون مكتبكم بأنه يركز على المشاريع المعمارية التي تعيد اختراع العلاقة بين البيئات الحضرية والريفية والطبيعية والتعاون بين مختلف التخصصات، ما الذي قاد اختيار هذه الأسس في عملكم؟ وما هي بعض الأمثلة من تجاربكم؟
ابتداءً من كتاب 49مدينة (49 cities )ومشروع المزرعة العامة 1(public farm 1)، كنا دائماً في محاولة لإيجاد طرق تعمل بها العمارة والمشاهد الطبيعية والبنى التحتية جنباً إلى جنب. نعمل حالياً على مشروع مكتبة عامة لبلدية بولدر في كولورادو حيث تتبنى العمارة التدفئة والتكييف الطبيعي، وأردنا أن يكون المشروع ذو استهلاك طاقة صفري “net Zero”، كما صممنا جزء من السقف كمساحة خضراء يمكن الوصول إليها من قبل المجتمع على مدار الساعة ويؤمن المغلف السميك على الواجهات مساحات لنمو النباتات ضمنها. كان الهدف من المشروع أن يجمع كل هذه الأنظمة سويةً وأن يبينها في عمارته، والحقيقة أن موقع المشروع لم يكن في وسط المدينة، بل على جانبه يوجد نسيج مدينة صغيرة وتحيطه الجبال من الجانب الآخر، ولذلك في هذا المشروع كنا قادرين على إنشاء هذه العلاقة.
في أحيانٍ أخرى؛ عندما نبني ضمن النسيج العمراني الكثيف، نبحث عن طرق لنحت مساحات حيث يمكن للأشياء أن تنمو وتتفاعل بشكل أكبر، سواء كانت نباتات خضراء أو مزروعات، نحاول أن تقتطع الفراغات في المباني لخلق هذه العلاقات بين الداخل والخارج حتى في الأماكن المزدحمة عمرانياً.

متحف الكراج يبدو كفكرة غريبة، ما هي فكرة المتحف وكيف تعاملتم معها؟
المشروع قائم في مقاطعة التصميم في مدينة ميامي، ويوجد نوع من التقاليد في ميامي بتغطية واجهات الكراجات. صمم مكتب اركيتيكتونا (Arquitectonica) ذلك المغلف الرائع والغني بالنباتات في الثمانينات، واستمر هذا التقليد الذي كان مثيراً بالنسبة لنا، وجاءتنا الفرصة عندما تم التواصل معنا لتصميم واجهة أحد الكراجات في المقاطعة، لكننا في WORKac أردنا أن نقوم بما هو أكثر من مجرد مغلف، لذلك طلبنا أن نستخدم لما يصل إلى 1.2 متر من العمق وبدلاً من أن نصمم مجرد مغلف للواجهة قمنا بتصميم فراغات عامة شاقولية، تتضمن مكتبة، ومساحات لعب، ومعارض خارجية. صممنا المشروع بطريقة تفعَل التجربة العامة ضمن سماكة الواجهة وتؤمن المزيد من التفاعل للمشاة مع الثقافة بدلاً من تحديد فعل التصميم المعماري بالمغلف فقط، وقد دعينا للتعاون مع معماريين آخرين وكان من المذهل أن نفكر أن كلا منا قد أخذ قسم من واجهة الكراج ويقوم بشيء مختلف. لقد كان المشروع من النوع الجنوني المرح، وكان دعوة لكي نفكر أبعد مما يعطى لنا، وأن نحرك الحدود ونفعل المزيد دائماً.



متحف الكراج في ميامي- WORKac ، تصوير:Miguel de Guzmán
تم التصميم بمشاركة عدة مكاتب أخرى حيث كان كل مكتب مسؤول عن تصميم جزء معين من الواجهة، كيف حصل التنسيق بينكم؟ هل كان العمل تشاركياً أم صُمّم كل جزء على حدى؟
المعماري الرئيسي تيري رايلي (terry riley) -الذي رحل عنا مؤخراً للأسف-، والذي كان شخصاً مميزاً جداً، هو الذي دعانا وأراد أن نعمل وفق مفهوم cadavre exquis السريالي، حيث يقوم عدة أشخاص بتصميم أجزاء من شيء ما دون معرفة ما يقوم به الآخرون. لكن لاحقاً اكتشفنا ما كان يقوم به جارنا يورغن مايير (Jürgen Mayer)، حيث كان لديه تصميم شبيه بالأصابع، وأحد التساؤلات المهمة والاشكالية في العمارة هي كيفية التقاء الزوايا. ولذلك اقترحنا أن نقوم بتصميم الزاوية معاً، وبذلك قمنا بتصميم الالتقاء الأشبه بتشابك الأصابع معاً وقد كان التعاون ممتعاً حقاً.


غالباً ما يكون تصميم المرائب مجرد عمل إنشائي روتيني خال من الابتكار، كيف غيرت هذه التجربة من فكرة تصميم المرائب؟
هنالك كراج سيارات آخر في ميامي مصمم من قبل (Herzog and de Meuron) الذي كان يحتوي على فراغات فنية أَيضاً. أظن أن في تصميمنا لمتحف الكراج كانت الفكرة بشكل رئيسي أن نفعل أكثر من شيء واحد في كل مشروع، فإذا كان لدينا كراج فيجب ألا يكون مجرد كراج للسيارات وإنما يجب أن يخلق تجربة للعامة، قد يدعم الفن على سبيل المثال. علاوة على ذلك، يمكننا تطبيق العديد من الاحتمالات عوضاً عن الفصل في الاستعمالات، الأمر الذي هو أصلاً حداثوي. الموضوع متعلق بالتكامل والدمج، هل بإمكاننا أن نزرع محاصيل على السطح؟ بالطبع لن نطعم مدينة كاملة من خلال زراعة المحاصيل فيها، الأمر ليس ممكناً، ولكن بإمكاننا تلبية بعض الاحتياجات، وبإمكاننا بالتالي تحويل ذلك إلى فرصة للناس أن يتعاونوا سوية، وللأطفال أن يتعلموا عن ثقافات مختلفة على سبيل المثال.
العلاقة بين الفن والعمارة علاقة جدلية والمشاريع المشابهة لمشروع الكراج تتلقى ردوداً متقلبة، فهل كان هذا المشروع يمثل عمل فني أكثر منه معماري؟
أظن أنه كلاهما، عمارة وفن، وأرى أن الحدود ما بين الفنون والعمارة أو بين العمارة والتخطيط، هي الحدود التي يجب علينا تبديلها ومساءلتها، لأننا إن لم نفعل ذلك فنحن نفترض أن العمارة هي هذا المكعب أو أن العمارة هي شيء واحد.
إن الهدف الأساسي هو المواظبة على السؤال عن ماهية العمارة وما قد تفعله، وإلا لن تتطور لتصبح ما نحتاجها أن تكون وتفعل اليوم. فعلينا بالفعل أن نداوم على الدفع إلى الأمام وألا نؤمن أننا نعلم تماماً ما هي العمارة وكيف عليها أن تظهر نفسها. أظن أن هذا هو الشيء المثير جداً في كوننا معماريين. هذه هي أنواع النقاشات التي نخوضها في فراغ الأكاديميا، هذه الأسئلة عما يجب أن تكونه العمارة اليوم وما الذي يجب أن تفعله وكيف بإمكانها خدمة هذه اللحظة. أرى أن هذا هو أكثر الأشياء إثارة في عملنا، أنه لا شيء مؤكد.
من موقع عملك كعميدة لجامعة كولومبيا وخبرتك الأكاديمية والعملية، كيف تقيّمين الطرق المتبعة في تدريس العمارة؟ هل فعلاً يمكننا أن ندرس العمارة؟ أو ما البديل؟
الأمر مثير للاهتمام كثيراً أليس كذلك؟ كل المدارس المعمارية التي أعرفها لديها نظام اعتماد أكاديمي ويجب على الطالب أن يلتزم به. ولكن في معظم المدارس وخصوصاً في جامعة كولومبيا، أسلوب تدريسنا يؤكد على طرح التساؤلات. نعم إنه من واجبي أن أعلّم الطالب بعض المهارات كالرسم مثلاً. أي شخص قادر على تعلم الرسم، ولكنه من المهم تمكين الطلاب على أن يمتلكوا القدرة على الإظهار والوصف والراحة عند ابتكار الأمور. ولكنني أشعر أنه من الضروري تعليم الطلاب أننا لا نعلم ويجب علينا أن نحرص ألا ننقل فكرة أن “هذه هي العمارة، هذا هو الذي عليك أن تفعله”. لا، إن السؤال أشبه ب “لماذا؟” لماذا نحن ننظر الى هذا المرجع؟ بالنسبة لي، التدريس يكون ناجحاً عندما يشعر الطلاب أنهم قادرون على الاستكشاف في التساؤلات التي تثير اهتمامهم من خلال العمارة، يجب أن يكونوا أيضاً قادرين على اتخاذ موقف إزاء ما يظنون أنهم يريدون ممارسته أو كتابته أو ما إلى ذلك.
منح القوة الى الجيل القادم لتشكيل ما يريدون العمارة أن تكونه، هذا الأمر الذي يجعل استوديو التصميم مثيراً للاهتمام. فهو الفراغ الذي يتم فيه دعم الطالب بأن يطور صوته أو موقفه الخاص. فرويد قال “هناك ثلاث أشياء مستحيلة: التربية، التعليم، وطبعاً أن تكون محلل نفسي”. إنها عملية مستمرة، نحن نتعلم من طلابنا عندما يأتون إلينا بأسئلتهم. الأمور اختلفت عن الفترة التي كنا نحن فيها طلاباً، لذا يجب علينا الإصغاء إلى أسئلتهم.
أحد الأشياء الجميل مشاهدتها في المدرسة هي كيف أن الأستوديو المعماري هو الفراغ حيث كل الأشياء تصب. الأمر الذي تعلمه الطالب في دروس التاريخ أو التكنولوجيا أو الرسم يحضره معه إلى الاستوديو. ولكنني لا أعتقد أن الأمر صحيح كلياً الآن. بعض الطلاب يحملون شغف ما بتاريخ العمارة والكتابة ويميلون إلى الذهاب بذاك الاتجاه. البعض الآخر يركز على الجوانب التكنولوجية للعمارة ويريد الغوص في عالم مواد البناء. لدينا طلاب عملهم الأساسي هو نمذجة المعلومات من خلال الرسومات والنظر بشكل نقدي الى البيانات المختلفة، هذا الأمر مهم جداً. لا نريد للأمور أن تتجزأ ولكن في الوقت ذاته أظن أنه هناك الكثير من الاتجاهات المختلفة التي يمكن أن يأخذ الطلاب فيها العمارة. أن نبني هو أحد الطرق العديدة لنكون معماريين.
ما مدى صعوبة العملية التعليمية خلال فترة جائحة كوفيد 19؟
الجائحة كانت صعبة جداً على الاستوديو. بالوقت ذاته أظن أنه كان هناك بعض الأمور الجيدة أيضاً. عدم وجود مجموعة الطلاب مع الأساتذة في الفراغ ذاته خلال العملية التعليمية كان من النواحي السلبية. من ناحية أخرى، السبل التي أقيمت فيها تحكيم الطلاب على تطبيق الزوم كانت مثيرة جداً للاهتمام. فجأة كان الجميع يرسمون سوية على لوح افتراضي حيث كان بإمكانك الاطلاع على أعمال الجميع في تطبيق واحد. أتوقع أن هذه الأنماط الهجينة جميعها سوف تبقى، فنحن نستطيع المحافظة على أفضل الأمور من العالمين.
مع التبدل والتحرك الواضح في التيار المعماري والعمراني المعاصر، خصوصاً بعد جائحة كوفيد 19 وعواقبها، هل تعتقدين أننا على أعتاب عصر جديد للتفكير المعماري والحضري؟
لست متأكدة إن كان كوفيد-19 فقط هو العامل المؤثر، ولكن أعتقد أننا كمعماريين بعمارتنا وأبنيتنا لم نقم بتلك القفزة المحورية بعد، حيث تغير المناخ والأزمات يؤديان إلى تغيير الطريقة التي نناقش ونفكر بها بالعمارة والبناء. التغيير دوماً يتطلب وقتا كثيراً، ولكن عام 2020 كان فعلاً عاماً محورياً نظراً لعدة عوامل سواء عدم الارتياح الاجتماعي الذي انتشر أو جائحة كوفيد-19 أو حركة “حياة السود مهمة”(BLM) أو قضايا المساواة والمطالبة بالمزيد من الشمولية.
قبل سبع سنوات طلابنا لم يكونوا منخرطين إلى هذه الدرجة، ولكن في الوقت الحالي كل مشاريع الطلاب تناقش قضايا معينة وهذا أمر بغاية الروعة. علينا أن نواظب على دعم الجيل القادم بأقصى قدراتنا. لذا أعتقد أننا في زمن مهم ومحوري، بل علينا أن نكون فيه.
في يومنا هذا، اللامساواة تسود العالم، وعند النظر بالموضوع نرى أن عدم المساواة هذه هي عنصر محوري في الولايات المتحدة. العنصرية أساس عميق وجزء لا يتجزأ من تاريخها بشكل صادم. عند التمعن بإقليمنا والعوامل الكثيرة التي ساهمت بتحويله مثل عدم المساواة بين المدن ذات الاقتصادات النفطية وباقي العالم العربي على سبيل المثال أو الطريقة التي أثر فيها التغيير المناخي على سوريا أو الحرب أو التهجير أو العلاقة بين مراكز المناطق الحضرية والقرى نرى أن جميع هذه العوامل معقودة ببعضها بعضاً وهنا تكمن المشكلة. التغيير المناخي كالجائحة سوف يفاقم الأمور، والشق الصغير سيتحول الى شرخ عظيم، إنه هجوم كامل على الأنظمة من حولنا، الأنظمة التي يجب تبديلها لأنها غير صامدة بشكل جيد. ولكننا دائماً ما نملك الأمل.
فريق الإعداد:
إعداد: أحمد صلاح – ميرما الورع
التدقيق اللغوي: دنيا المير
نشر إلكتروني: محمد ميار علي الخلف