مدن غير مرئية: العمران المستدام تحت الأرض
من الحقائق التاريخية أن البشرية بدأت سكنها في الكهوف والخيام، واليوم نجد أن التحديات الحضرية المتزايدة تدفعنا إلى العودة إلى باطن الأرض لابتكار بيئات أكثر استدامةً ومرونةً. لقد أصبح استخدام المساحات تحت الأرض استجابةً واقعيةً لضغوط المدن، وفرصةً لتحسين جودة الحياة والحفاظ على الموارد الطبيعية.
“You cannot separate the buildings out from the infrastructure of cities and the mobility of transit.”
— Norman Foster
“لا يمكن فصل المباني عن البنية التحتية للمدن وعن أنظمة النقل والتنقّل.”
يشكّل التوسع تحت الأرض توجّهًا متزايدًا في التخطيط الحضري لمواجهة تحديات المدن المعاصرة. فمع محدودية المساحات فوق الأرض وتزايد الكثافة السكانية، أصبح من الصعب تلبية متطلبات السكن والخدمات ضمن الحدود التقليدية للمدن.
من هنا، باتت البنية التحتية تحت الأرض حلًا فعّالًا لدعم الاستدامة وتعزيز جودة الحياة، إذ تسهم في تخفيف الازدحام، والحفاظ على المساحات الخضراء، ورفع كفاءة المدن من النواحي البيئية والاجتماعية والاقتصادية.
 
													البناء تحت الأرض:
مفهوم البناء تحت الأرض (Underground Building) ليس جديدًا، بل هو مفهوم متجذّر في التاريخ، وقد أصبح نمطًا إنشائيًا شائعًا منذ القرن العشرين وما بعده، خصوصًا في الدول التي تميّزت بالتطوّر والتقدّم. ويمكن اعتباره حلًا مثاليًا بديلًا للعديد من المشكلات الحضرية المعاصرة في المراكز الحضرية والمدن ذات الأهمية التاريخية. كما ظهرت العديد من الدراسات التي تسعى إلى دمج المباني تحت الأرض بمختلف مستوياتها في النسيج العمراني.
دوافع التوجه للبناء تحت الأرض:
لماذا نلجأ إلى البناء تحت الأرض؟
لجأ المهندسون إلى البناء تحت الأرض كأحد البدائل العمرانية، وذلك لعدة أسباب، نذكر منها:
التشبع السكاني، والازدحام المروري، وزيادة الضوضاء، وتلوث الهواء، ونقص الموارد، وندرة المساحات الخضراء والترفيهية.
فقد أصبحت المدن «بيئات غير صديقة للمستخدم» (user-unfriendly environments)، مما دفع المهندسين ومخططي المدن الكبرى إلى استكشاف باطن الأرض بجدية كخيارٍ للتوسع العمراني لبعض المرافق المحددة حاليًا. ويتزامن هذا التوجّه مع التحسّن السريع في تقنيات حفر الأنفاق، التي أصبحت أقل تكلفةً وأكثر أمانًا وسرعةً.
تاريخ البناء تحت الأرض:
على مدى قرونٍ عديدة، شُيِّدت مدنٌ تحت الأرض وكهوفٌ في مواقع متفرقة حول العالم، ولا سيما في المناطق ذات المناخ القاسي.
وقد شهدت كندا، ولا سيما مدينتا مونتريال وتورونتو، توسعًا حضريًا تحت الأرض خلال ستينيات وتسعينيات القرن الماضي. أما اليوم، فيشهد هذا التوجّه ازدهارًا كبيرًا في الصين.
وإلى جانب النمو الاقتصادي والرؤية الثاقبة، دعمت هذه التحسينات توسعًا واسعًا في المرافق تحت الأرض، لا سيما في اليابان وإيطاليا والنرويج، وفي الصين التي تُعَدّ حاليًا الدولة الرائدة عالميًا في حفر الأنفاق.
أنواع المرافق تحت الأرض:
منّ مشاريع الأنفاق (Metro) تحت الأرض لا تهدف فقط إلى إنشاء الأنفاق والأنابيب، بل تسعى أيضًا إلى توفير بيئات حضرية ممتعة وآمنة للناس.
وفي السنوات الأخيرة، تم تطوير واستغلال المرافق الحضرية تحت الأرض في مجالات متعددة، منها:
1. مرافق النقل تحت الأرض: مثل مترو الأنفاق، والسكك الحديدية، ومواقف السيارات تحت الأرض.
2. تحسين إمكانية الوصول إلى المناطق الحضرية الأساسية، والمناطق التاريخية المحمية، ومناطق النقل بالسكك الحديدية.
3. خدمات التوزيع: كالكهرباء، والمياه، والصرف الصحي، وغيرها.
4. التخزين: للمياه، والبضائع، والطاقة، ومواقف السيارات.
الأنشطة الترفيهية والتجارية: مثل الملاعب الرياضية، وحدائق الحيوان، والمتاجر.
5. المنشآت التعليمية: كالمكتبات، وقاعات الاختبار.
6. المرافق الصناعية: مثل المصانع، والورش، والمكاتب.
7. منشآت الدفاع: كالمراكز القيادية والمنشآت العسكرية.
8. المقابر.
 
													الاستدامة تحت الأرض: (Underground sustainability)
كيف يساعد العمران تحت الأرض على الاستدامة؟
رز مفهوم المدن المدمجة (Compact Cities) بوصفه أحد أهم النماذج الحديثة في التخطيط الحضري المستدام. وتُعرَّف المدينة المدمجة بأنها مدينة متعددة الاستخدامات، ذات كثافة سكانية وبنائية عالية نسبيًا، تقوم على نظام نقل عام فعّال، وتتميز بأبعادٍ تشجع على المشي وركوب الدراجات.
ويرتكز هذا النموذج على مبدأ الاستخدامات المختلطة للأراضي، والاعتماد على النقل العام بدلًا من المركبات الخاصة، مع تقليل التمدد العمراني، وتحقيق الاستخدام المستدام للموارد، بما يسهم في الحد من التلوث وتحسين جودة الحياة في المدن. ويُعتبر نموذج المدن المدمجة من الاتجاهات الرائدة في مجال التحضّر المستدام، إذ يهدف إلى تحقيق توازن دقيق بين الأبعاد البيئية والاقتصادية والاجتماعية من خلال استراتيجيات تخطيط متكاملة (Bibri et al., 2020).
وتبدو الفوائد البيئية لهذا النموذج واضحة؛ فإذا أُتيح للسكان المشي أو ركوب الدراجات داخل مدينتهم، مع وجود وسائل نقل عام فعّالة ونظيفة تحت الأرض مثل مترو الأنفاق، فإن ذلك يقلل بدرجة كبيرة من الحاجة إلى السيارات المسببة للتلوث. وبما أن المركبات تشغل عادةً نحو ثلث مساحة المدينة التقليدية، فإن اعتماد النقل العام الحديث والرخيص والآمن يمكن أن يجعل المدينة المدمجة بيئة شبه خالية من التلوث.
التخطيط العمراني تحت الأرض:
 يوجد أسلوبان رئيسيان لتخطيط المساحات تحت الأرض. 
يتمثل الأسلوب الأول في إعداد خطة رئيسية منفصلة مخصَّصة للشبكة تحت الأرض فقط، كما هو الحال في مدينة تورونتو التي وضعت خطة PATH طويلة المدى، ومدينة هلسنكي التي خصصت مساحاتها تحت الأرض لأغراض النقل والدفاع والخدمات المختلفة. 
أما الأسلوب الثاني فيقوم على دمج خطة المترو والمساحات تحت الأرض ضمن الخطة الشاملة للمدينة، كما هو مطبَّق في مونتريال، حيث تُراجَع الخطة كل خمس إلى سبع سنوات بما يتيح مرونة أكبر وتوجيها مستمرًا لعمليات التطوير فوق سطح الأرض وتحته. 
ومع ذلك، فإن إعداد خطة شديدة التفصيل قد يحدّ من مرونتها في الاستجابة لاحتياجات السوق المحلي وتغيراته، خاصةً أن سوق العقارات يخضع في الغالب لإدارة القطاع الخاص، ولا يمكن إلزام المطوّرين بالاستثمار في مواقع محددة تحت الأرض.
 
													كيف يتم تقسيم المساحات تحت الأرض؟
يمكن تقسيم المساحات تحت الأرض وفقًا للاستخدام إلى:
المساحات التي يستخدمها الجمهور بشكل مكثف وتشمل هذه المناطق التجارية والترفيهية، حيث يتمثل الاعتبار التخطيطي الرئيسي في تهيئة بيئة صحية ومريحة. لذلك، يجب إيلاء اهتمام خاص بالإضاءة، والتهوية، والصوتيات، وسهولة التوجيه والحركة.
المساحات التي يشغلها الجمهور بكثافة أكبر وتتضمن شبكات المرور تحت الأرض، وخاصة خطوط المترو ومواقف السيارات. وينبغي أن يركز التخطيط في هذه المساحات على الراحة وسهولة الوصول للمستخدمين.
المساحات التي تستخدمها فئة محددة فقط وتشمل مرافق الصيانة الفنية مثل محطات معالجة مياه الصرف الصحي، ومحطات الطاقة، ومساحات التخزين. وبما أن هذه المرافق نادرًا ما يزورها الجمهور، فهي غالبًا ما تُقام على أعماق كبيرة تحت سطح الأرض.
المساحات التي نادرًا ما تُزار و تضم أنفاق كابلات الاتصالات، وأنفاق الصرف الصحي، وأنفاق إمدادات المياه. وبما أن هذه المساحات تُستخدم بشكل محدود، يمكن بناؤها على أعماق كبيرة لتقليل تأثيرها على الأنشطة الحضرية اليومية
 
											مثال واقعي لمدينة مونتريال تحت الأرض (The Montreal Underground City)
مونتريال: مدينة تمشي تحت الأرض
تتعامل مدينة مونتريال مع مبادئ التخطيط والقواعد وقضايا الإدارة المتعلقة بالمساحات تحت الأرض منذ أكثر من 55 عامًا، وقد بنت خلال هذه الفترة ثروة من الخبرة التي يمكن للمدن الأخرى الاستفادة منها. 
تمثل المدينة تحت الأرض شبكة مشاة داخلية تمتد على طول 32 كيلومترًا، وتشمل أنفاقًا فقط، حيث لم تسمح مونتريال أبدًا بإنشاء ممرات هوائية علوية. وقد سُميت هذه الشبكة عام 2004 باسم RESO، وهو المصطلح الفرنسي لكلمة “شبكة” (network). 
ويمكن للمستخدمين العثور على خرائط RESO في جميع أنحاء الشبكة تحت الأرض، بالإضافة إلى خرائط موجودة على الأعمدة في الشارع وعند كل مدخل.
شبه شكل شبكة RESO شبكة (net)، حيث تمر الممرات العامة عبر أقبية المباني المملوكة للقطاع الخاص، وتقطع الشوارع أسفلها بشكل عمودي. بدأ مشروع RESO في عام 1962، وكان تمويله مقتصرًا على المطورين من القطاع الخاص، باستثناء شبكة المترو التي افتُتحت في عام 1966. 
تعمل الشبكة خلال ساعات عمل مترو الأنفاق نفسها، ويمكن للمستخدمين التنقل عبر ممرات العقارات الخاصة حتى لو كانت المتاجر مغلقة. كما يتيح مشروع RESO الوصول إلى خمسة وستين مبنىً، بما في ذلك الفنادق ومراكز التسوق والجامعات ومراكز المؤتمرات والمرافق العامة.
 
													تحديات البناء تحت الأرض:
 سلبيات البناء تحت الأرض
رغم الفوائد التي تقدمها مشاريع العمران تحت الأرض، هناك عدة تحديات يجب أخذها في الاعتبار. أولها أن الأرض السفلية ليست موردًا متجددًا، ويجب استخدامها بحذر وعناية. كما أن تكلفة البناء تحت الأرض تتراوح بين ضعفين وعشرة أضعاف تكلفة البناء فوق الأرض، ويُعد هذا البناء غير قابل للتراجع، مما يتطلب تخطيطًا دقيقًا وتصميمًا علميًا.
تشمل التحديات التخطيطية والتصميمية ضمان السلامة والبيئة المبنية وجودة البيئة الداخلية، مثل الحرارة والتهوية والإضاءة، بالإضافة إلى استهلاك الطاقة العالي، حيث تمثل الإضاءة وحدها نحو 35٪ من استهلاك الطاقة الكلي في بعض الحالات. كما أن المباني تحت الأرض تكون أكثر عرضة للكوارث من المباني فوق الأرض، وتشمل المخاطر الشائعة الحرائق والزلازل والانهيارات والتسمم والفيضانات، وغيرها
أمور لتحسين بناء المباني تحت الأرض:
لكي تكون المساحات تحت الأرض ممتعة ومناسبة للعيش ومرغوبة، يجب أن تلبي مجموعة من الاحتياجات الأساسية للزوار، بما في ذلك الموقع، والاتجاه، والمناظر الطبيعية، والحجم والنطاق، وجودة الإضاءة سواء كانت طبيعية أو اصطناعية، والتهوية مع أو بدون نباتات، ودرجة الحرارة، بالإضافة إلى الأجواء الصوتية. وغالبًا ما تُهمل هذه الاحتياجات في المنشآت فوق الأرض.
كما يجب دراسة سلامة البناء بشكل كافٍ لضمان حماية أرواح الناس وممتلكاتهم. ويتطلب تحقيق الاستفادة الكاملة من الموارد الطبيعية وبناء بيئات تحت الأرض مستدامة معرفة وتعاونًا بين التخصصات المختلفة، وقد يشمل ذلك تصميم العمارة، وتقنيات البناء، والهندسة المدنية، والنقل، وإدارة جودة الهواء، والعوامل البيئية الأخرى، بهدف تحقيق مساحات تحت الأرض آمنة وموفرة للطاقة ومريحة.
ينبغي تدريب المتخصصين لامتلاك كفاءة التعامل مع هذه البيئات من حيث التخطيط والتنفيذ والإدارة، بالاستفادة من تجارب منظمات مثل ACUUS وITACUS وSUB-URBAN. كما يجب أخذ خصائص “الجيولوجيا” (Geology) تحت السطح بعين الاعتبار، نظرًا للطبيعة الفريدة لباطن الأرض. وفي السنوات الأخيرة أصبح بالإمكان رقمنة المعلومات الجوفية بسرعة، وتخزينها في قواعد بيانات وربطها بنظم المعلومات الجغرافية، ما جعل المعلومات الجيولوجية والجيوتقنية أكثر سهولة في الوصول، وأتاح تفسير خصائص باطن الأرض بشكل أكثر تفصيلًا.
وأخيرًا، يتطلب فهم أهمية استخدام المساحات تحت الأرض وعياً باتجاهات التنمية الحضرية والمسار الذي يسلكه التخطيط المعاصر لضمان الاستدامة والفعالية في التصميم والتنفيذ.
مؤسسات عالمية للبناء تحت الأرض كمؤسسة ACUSS :
تم تأسيس ACUUS عام 1996 رسميا (ومنذ 1997 مقرها في مونتريال) كمؤسسة غير حكومية دولية مستقلة يُموّلها أعضاؤها، وليس قطاع الصناعة، هي “مركز أبحاث” دولي للمجتمع العالمي يجمع خبراء من التخطيط، الجيولوجيا، الهندسة، و القانون, أيضا المستثمرين و البنائين و المتخصصين بتطوير التخطيط تحت الأرض.
يرتبط بشراكات استراتيجية مع عدة منظمات عالمية.
يهدف هذا المركز بشكل رئيسي إلى توفير منصة تجمع خبراء من مختلف التخصصات العلمية، مما يُمكّنهم من صياغة مبادرات مترابطة لتعزيز تطوير واستخدام البنية التحتية تحت الأرض، بما يُسهم في نهاية المطاف في تحسين حياة المدينة. 
 
													في ضوء ما استعرضناه من تاريخٍ عريقٍ، و حلول عمليةٍ، و تحديات قائمةٍ، يتضح أنّ استثمار المساحات تحت الأرض لم يعُدّ بديلًا إنشائيًا فحسب، بل أداة أساسية لدعم استدامة المدن المعاصرة.
و يتطلّب ذلك تعاونًا علميًا و تخطيطيًا بين مختلف التخصصات، إلى جانب سياسات و تشريعات مرنة لضمان الاستغلال الأمثل لهذه الموارد.
و بهذا، سيساهم التطوير المدروس لباطن الأرض في رسم ملامح عمرانية أكثر تكاملًا و ملائمة لاحتياجات الإنسان على المدى البعيد.
 
													من الحقائق التاريخية أن البشرية بدأت بمفهومين أساسيين للسكن: الكهف والخيمة (The cave and the tent). ومع الحاجة المستمرة إلى التطوير، برزت العديد من التصاميم لأنماط سكن متطورة. والسؤال المطروح اليوم: ماذا ستنتج البشرية بعد ذلك؟ هل يمكن أن يكون باطن الأرض هو الحل؟
معرض الصور:
المراجع:
فريق الإعداد:
إعداد: نص نص نص
نشر إلكتروني: نص نص نص
التدقيق العلمي: نص نص نص
التدقيق اللغوي:نص نص نص















