تراسات بيروت

المقتطف:

إن وحشية الحرب وقساوتها غالباً ما تترك بصماتها على المدن طويلاً وتغير من شكلها، وما إن تبدأ هذه المدن بالتعافي حتى تظهر التحديات حول إعادة إعمارها وتأهيلها، ولعلّ أصعبها دائماً هو التحدي المتعلق بمواكبة التجديد والحداثة دون طمس هوية المدينة وتاريخها. 

في هذا المقال نقرأ عن مبنى استلهم فكرته من الحقبات الزمنية المختلفة التي تعاقبت على مدينة بيروت، ولكنه استخدم تقنيات وأفكار ومواد بناء حديثة تتماشى مع بيروت المعاصرة التي يطمح لها المعماريون، وتمنح الثقة والتفاؤل بمستقبلٍ جديدٍ لهذه المدينة.

تعد مدينة بيروت من أهم المدن التي تقع في قلب الشرق الأوسط، و تعتبر صلة وصل بينه و بين أوروبا، وزاد من أهميتها احتضانها للثقافات المتنوعة وغناها بطبقاتٍ عديدةٍ من التاريخ، نتيجةً للحضارات المختلفة التي مرت عليها، من الفينيقية إلى الرومانية ثم المملوكية والعثمانية والاستعمارية الحديثة. وهي إحدى المدن التي شهدت أحداث الحرب الأهلية اللبنانية، وتفجيرات ضخمة كتفجير عام 2005، تركت كلها ندباتٍ واضحةً لا تزال بعضها ظاهرة في هذه المدينة حتى الآن. 

 وضمن خطةٍ لإعادة تأهيل المنطقة المجاورة للمرفأ، كان مشروع تراسات بيروت، الذي يعتبر نموذجاً مصغراً لقريةٍ شاقوليةٍ متكاملةٍ، والذي يمكن اعتماده كمشروع مستدام قابل للتكرار.

مبنى Beirut Terraces

موقع المبنى و المعماري المصمم:

يقع المبنى في مدينة بيروت، في المنطقة المطلة على مرفأ اليخوت، وهي منطقة مكاتب وأبراج سكنية فخمة. تم البناء اعتماداً على فكرة الطبقات المتعددة المستلهَمة من الحضارات المختلفة التي تعاقبت على المدينة وشكلت تاريخها الحافل وثقافتها المتنوعة. تم تصميم البرج من قبل المعماريين السويسريين هيرتسوغ  ودي ميورون   “Herzog and de Meuron”، في رؤيا مختلفة وضمن خطةٍ أكبر لإعادة تأهيل هذه المنطقة.

إطلالة المبنى على مرفأ بيروت

تفاصيل البرج:

يتألف هذا المبنى من 26 طابقاً، بالإضافة إلى طابق الخدمات و5 طوابق مواقف سيارات تحت الأرض. يبلغ ارتفاع البرج الكلي 119 متراً، وهو عبارة عن شققٍ سكنيةٍ منفردةٍ أو مزدوجةٍ على طابقين (duplex)، تتراجع أو تبرز بطريقة مختلفة في كل طابق، حيث يختلف شكل وبروز بلاطة كل طابق عن البلاطة التي تليها، وهذا يجعل كل شقةٍ ذات مساحة وتصميم فريدٍ من نوعه، و يتيح بدوره تكوين تراسات بأشكالٍ مختلفةٍ، وأماكن خاصة لتجمع سكان المبنى، كما يوفر هذا التصميم أيضاً تناوباً بين النور والظل ضمن الفراغات. 

تم تجميع الشقق المنفردة بتشكيلاتٍ متنوعةٍ تندمج مع بعضها لتشكل ما يشبه الحي الجديد. تنفتح الفراغات الداخلية نحو الخارج بواجهات زجاجية مستمرة تمتد من الأرض حتى السقف، لتوفر إطلالةً مميزةً، وتتيح أكبر قدر ممكن من الإنارة. 

يمتاز مدخل البرج الرئيسي بسقفٍ مرتفعٍ، ويضم بركاً من الماء وبعض النباتات. في حين تم تقسيم المبنى إلى أربعة أجزاء يمتلك كل جزء منها بهواً خاصاً به، ويخدم كل شقتين مصعدٌ واحدٌ، أما بالنسبة للمصاعد الخدمية وأدراج الهروب فهي مشتركةٌ بين كل بهوين.

البلاطات ذات الأشكال المختلفة في كل طابق
طابق المدخل الغني بالنباتات والمسطحات المائية مشكلا بيئة طبيعية مصغرة داخل المبنى

 تتكون كل شقٍة من فراغ استقبال، وفراغٍ خاص بالمعيشة وجزءٍ خدمي. يتصل فراغ الاستقبال مع غرفة جلوس كبيرة وغرفة طعام و مساحة خاصة بالتسلية، وفي الوقت ذاته مع التراس الواسع. أما فراغ المعيشة الخاص بالعائلة فيشمل غرفة جلوس وغرف نوم مع حمامات وخزائن خاصة بها، ويتصل أيضاً مع التيراس. بينما يضم الجزء الخدمي مطبخاً وأماكن للتخزين، وغرفة غسيل وغرفة خاصة بالخادمة.

المسقط الأفقي للطابق الثالث في المبنى

المبنى محمول على نواةٍ مركزيةٍ، وتدعمه شبكة من الأعمدة بتباعد 14.7 متر، وبالتالي جدرانه ليست إنشائيةً، وهذا ما يكسبه مرونة في التشكيل وإمكانية للتوسع أو إعادة التشكيل المستقبلي.

كما تم الاهتمام بالتفاصيل واستخدام مواد عالية الجودة في هذا التصميم، مما جعله مبنىً فخماً ذو كفاءةٍ عاليةٍ.

شبكة الأعمدة داخل المبنى عن قرب

كيف استطاع هذا المبنى تحقيق الاستدامة؟

الهندسة البيئية الواضحة للفراغات: ويتمثل ذلك باستخدام أنواع مختلفة من النباتات الأرضية منها والمعلقة في جميع الطوابق، ووضع برك ومسطحات مائية ساهمت في خلق بيئةٍ مصغرةٍ متكاملةٍ في الفراغات الداخلية والخارجية.

التناوب بين الظل والنور: وتم تحقيق ذلك من خلال البلاطات ذات الأشكال والبروزات المختلفة، التي تحوي ثقوباً تساهم في تظليل المبنى وتقليل نسبة تعرضه لأشعة الشمس، كما تشكل هذه الثقوب عند مرور الشمس ظلالاً مميزةً تعطي المبنى طابعاً خاصاً به.

الحفاظ على درجة حرارةٍ معتدلةٍ: من خلال توظيف النباتات والبرك والمسطحات المائية التي تقوم بتعديل المناخ الداخلي وجعله مناسباً. بالإضافة إلى اختيار سماكة مناسبة لجدران المبنى، تقوم بتخزين البرودة خلال الليل وإطلاقها أثناء النهار. 

التناغم بين الداخل والخارج: من خلال الاستمرارية والاندماج الذي نراه بين الفراغات الداخلية والتراسات الخارجية بما تحويه من نباتاتٍ، عبر واجهاتٍ زجاجيةٍ تتيح إطلالةً مميزةً على البحر في الشمال، وعلى شارعٍ غنيٍ بالمساحات الخضراء في الشرق، مما جعل هذا المبنى جزءاً لا يتجزأ من محيطه والبيئة الطبيعية التي حوله.

النباتات الأرضية والمعلقة في تراسات المبنى
البلاطات المثقبة التي تمر من خلالها أشعة الشمس معطيةً المبنى مظهراً فريداً من نوعه
إطلالة التراسات الخارجية المباشرة على البحر

إن مشروعاً كهذا وغيره من المشاريع المشابهة تمنح الأمل بمستقبلٍ واعدٍ للعمارة في شرقٍ أوسطٍ أنهكته الحروب والظروف المعيشية الصعبة، وتفتح المجال أمام المعماريين ليطلقوا العنان لمخيلتهم، و ليضعوا تصميماتهم بجرأةٍ، بعيداً عن القيود التي تفرضها التقنيات القديمة، ورغم كل العوائق التي يمكن أن تواجههم.

معرض الصور:

المراجع:

فريق الإعداد :

إعداد: ندى حداد

التدقيق العلمي: م. يعاد سفور
التدقيق اللغوي: م. حنان حداد

نشر إلكتروني: تسنيم الحوراني

مقالات قد تعجبك

مقابلة مع أعضاء من الفريق الفائز بمسابقة اليونسكو لإعادة تأهيل مجمع النوري في الموصل، العراق
صورة 1
حوار مع المهندسة رضوى رستم
Amale_Andraos
من الشرق الأوسط إلى الغرب، عن الأكاديمية والعمل. لقاء مع د. امال اندراوس
التخطيط العمراني لتجمعات الفلل السكنية
Elias Khuri (2)
العمارة المتوسطية بين الثقافة المحلية والمعاصرة - مقابلة مع المعمار إلياس خوري
01-Villa-Rotonda-Palladio
مراحل تطور بناء الفلل السكنية عبر الزمن
Scroll to Top