العمارة هي إحدى الوسائل التي يبتكرها الفكر ويسخّرها في إرضاء حاجات الإنسان، وأهمها تأمين بقائه وتحقيق راحته السيكولوجية فهل استطاعت الأبنية العالية تحقيق الحاجات الانسانية؟
وهل هي سيئة أم جيدة للناس؟ ما الجانب السيئ والجيد فيها ؟ وما أثرها على النسيج الحضري والمجتمعي ؟
وكيف نستطيع تطوير وتحسين تلك الأبراج لتسخيرها لخدمة متطلبات الإنسان؟
يمكن أن يكون للمباني السكنية الشاهقة عدد لا يحصى من الآثار على تجارب السكان في البناء، والسلوك الاجتماعي من خلال عوامل معتدلة، بما فيها الوضع الاقتصادي و السكني، ونوعية الحي.
اعتبرت الأبراج الشاهقة الأقل إرضاءً للناس من بين أشكال الإسكان الأخرى، لأنها ليست مثالية لوجود الأطفال وتعيق نموهم، وأن العلاقات الاجتماعية فيها أكثر ضعفاً وفقراً، حيث يمكن تقسيم العلاقات التي تنشأ فيها إلى نوعين رئيسيين: العلاقات داخل المسكن والعلاقات بين الجيران في المبنى، فغالباً ما تحدث اللقاءات مع الآخرين ضمن الممرات والأدراج الضيقة والمظلمة.
كما تم اتهام المباني الشاهقة بأنها تشكل بيئة حاضنة للعديد من الأماكن غير المريحة ضمن الأحياء السكنية. لذا خلصت معظم الآراء إلى أن المباني الشاهقة ليست مفيدة
على المستوى المجتمعي، فهي متهمة بـ إثقال كاهل الخدمات القائمة والبنية التحتية و مفاقمة مشاكل المرور.
تشغل المباني الرفيعة الشاهقة حيزاً أصغر من المساكن المنخفضة الارتفاع، أي أنها تشغل مساحة أقل من الأرض وبالتالي تتيح الفرصة لاستغلال تلك المساحات كحدائق وساحات عامة تشاركية بين السكان. إذ تلعب المساحة بين المباني الشاهقة دورًا مهمًا في توجيه التفاعل الاجتماعي للأشخاص وتزيد المساحة الخارجية الجيدة من الفرص الاختيارية والاجتماعية، إذ أن التفاعل بين السكان هو الأساس لبناء مجتمع متناغم.
بما أن الاتصال الاجتماعي مهم بشكل خاص بالنظر إلى التركيبة السكانية المتغيرة لسكان المدن، تحتاج المباني الشاهقة إلى الاستجابة لهذه الرغبات من خلال روابط اجتماعية وإمكانيات مبدعة.
تم تطوير تصميم المباني السكنية الشاهقة والتي تتناول على وجه التحديد الحاجة إلى التواصل الاجتماعي من خلال عدة استراتيجيات منها :
استكشاف فكرة العيش في الهواء الطلق، وإعادة تفسير العناصر المعمارية مثل الشرفات وحدائق السطح في المناطق الحضرية التي تعادل الفناء الخلفي، والاستفادة من المساحة على السطح الخارجي للمبنى التي يمكن أن تكون بمثابة مجتمع عامودي يمكن للسكان من خلاله أن يلتقوا ويتواصلون مع بعضهم البعض.
_ فكرة خلق واستدامة المجتمعات الحيوية من خلال التصميم الخارجي المكاني بتشكيل حدائق داخلية ومساحات خارجية.
_ استخدام الجسور كموصل اجتماعي مما يسمح بالمزيد من المشاركة بين الناس ويدعم التواصل الحضري والاستمرارية الاجتماعية.
-استخدام فكرة النحت الشمسي ( التظليل الذاتي ) لإنشاء مساحة اجتماعية حول المباني، إذ تركز على أهمية الفضاء والحق في رؤية ضوء النهار والشعور به في الأماكن العامة.
يشهد عصرنا الحالي تشييد الكثير من المدن العملاقة في جميع أنحاء العالم، فقد اجتاح العمران الرأسمالي العالم وقتل شكل المدينة التقليدية وهمّش الإنسان ووضعه جانباً، حيث صُمّمت تلك المباني لتخدم السيارات والشركات ومراكز التسوق.
بالنظر إلى النسيج الحضري كبنية، يمكن التعريف عنه بكونه الناتج الفكري المادي للإنسان، وأن انتظام هذا النسيج وتفاعله مع بقية المكونات الأخرى للبيئة يؤدي الى تكوين المدينة، حيث تكتسب عناصر البنية الحضرية أهميتها عند تفاعل بعضها مع بعض لتأدية الوظائف المختلفة.
إن انتشار عمارة المباني العالية تؤكد على الحاجة لتوافر مثل هذا التصميم الحضري العمودي، وهو ما يتوقع أن يكون مهيمناً على التصميم الحضري للقرن الحادي والعشرين.
“علينا أن نعي أن التحضر المعاصر في بيئة الوطن العربي هو تعمير ملوث بصرياً، وأن العيش مع مصنعات أشكالها ملوثة بصرياً تؤدي بدورها إلى كبت تفعيل القدرات الحسية ” (رفعة الجاردجي)
يقول رفعة الجاردجي في كتابه “دور العمارة في حضارة الإنسان: “إن ترقية العمارة ونضجها أو فسادها ستؤلف الحالات المتعددة لعيش الإنسان ضمن البيئة المستدامة. وبالتالي فإن جودة هذه العمارة قد تكون مسؤولة عن تعزيز هذه البيئة التي يعيش فيها الفرد أو الجماعة أو إفسادها”.
إن إفساد “التكوين الشكلي” للعمارة الذي يؤثر على معيشة الإنسان، له دور في إفساد الأداة التي توظف في تفعيل القدرات المعرفية والحسية لمجتمع الإنسان.
يكتب رفعة الجاردجي: “إن العمارة أكثر من أي مصنع آخر لها تأثير في حياة الفرد والجماعة التي تعيش ضمن جدرانها وبين أبنيتها وأزقتها وساحاتها العامة. حيث تشكل جودتها ونضجها من ناحية، و تلوثها وفسادها من ناحية أخرى، دلالة واضحة على حالة حضارة المجتمع الذي يصنعها ويدعمها مع الزمن.