العمارة المتوسطية بين الثقافة المحلية والمعاصرة مقابلة مع المعمار إلياس خوري

هذه المقابلة من العدد 000، اضغط هنا لرؤية العدد​

المقتطف:

إلياس خوري، معمار فلسطيني درس في إيطاليا وتخرج من كلية الهندسة المعمارية في ميلانو عام 2005، تنقل في دول حوض المتوسط وأوروبا، تأثر بعمارتها واكتسب من خبراتها ثم عاد إلى فلسطين ليبدأ بمحاولات بناء عمارة متوسطية سليمة.

يعمل مكتب إلياس خوري في حيفا على العديد من المشاريع الخاصة والعامة التي تندرج في سياق الحفاظ على التراث العمراني والمشاهد الطبيعية، قام بتصميم وتنفيذ عدة مشاريع سكنية في فلسطين وشارك بالمداخلات والأعمال الترميمية في خان الوكالة وخان جلجولية، حاز على جائزة المعماريين العرب عام 2022 عن مشروعه بيت 12 زيتونة.

تعددت محطاتك المكانية عبر: فلسطين، إيطاليا، البرتغال، وإسبانيا؛ بداية حدثنا عن أثر تنقلك في تكوين تجاربك ورؤيتك المعمارية :

كنتُ قادماً من فلسطين وعمري ثمانية عشر عامًا، رميت بنفسي في إيطاليا ووجدت مفهومًا مختلفًا للعمارة متجسدًا حولي، تقلّبت اهتماماتي بين كثير من المعماريين، واختلفت بشكل كبير منذ ذلك الحين حتّى اليوم، مع الوقت وجدت نفسي أقتربُ من العمارة الحقيقية.

لم يكن لدي خلفية مسبقة عن العمارة في البداية، ولكن مع الوقت بدأ ولعي بها. كان عندي شعور دائم بالحاجة إلى ترميم الفجوة المعرفية التي كانت لدي وخاصةً عندما كنت أقارن نفسي مع الطلاب الآخرين. ولطالما أثارَ معماريو حوضِ المتوسط اهتمامي دون وعي منّي، وبذلك بدأت بدراسة عمارة إسبانيا والبرتغال وهذا ما كان له الأثر الأكبر عليّ، بالإضافة إلى التّطور الطبيعي لشخصيتي التّي بنيتها من عائلتي، أصدقائي، ومعارفي، وقراءاتي.

ما هي أبرز نقاط التشابه في العمارة المتوسطية المحلية؟ وكيف أثرت العوامل الطبيعية وغير الطبيعية في تكوين طابع هذه المدن؟

ما يربط هذه المنطقة هو الشمس والبحر، حيث أنَّ المناخ هو العامل الأكثر تأثيراً بعمارة المتوسط، وقد تأثرت من إسبانيا والبرتغال بالعمارة القائمة على العلاقة بين الداخل والخارج والعلاقة مع الطبيعة والطبوغرافيا.

العامل الثاني هو مواد البناء، وهنا يظهر تواضع البناء باحترام سياقه ومحيطه، وعمارة إسبانيا مثال جيد على هذا التواضع. ومن أجل توضيح المقصود بالتواضع في العمارة نذكر المعماري ألفارو سيزا، فقد تعلم العمارة من العمارة الشعبية وهي عمارة عفوية spontaneous وكان هذا أكبر درس لي في مسيرتي.

The Clay Pavillion / Alvaro Siza + BAAQ'

وعلى جانب آخر تأثرت بالمعماريين الذين حاولوا قراءة العمارة العربية، أمثال لويس كان، حيث تعلم هؤلاء المعماريين العمارة من الزيارات التي قاموا بها للشّرق الأوسط والجزائر والمغرب، ما تعلمته منهم كان عن طريق فهم قراءاتهم في العمارة العربية. يوجد مثل يُقال في العمارة وهو To read is rather to repeat بمعنى أنْ يقرأ الشخص أي موضوع بإحساسه الخاص تجاه هذا الموضوع، فعندما أريد أن أفهم عمارة معينة أراقب تأثيرها على أشخاص من خلفيات أُخرى. كل عام أقوم بجولة مدتها أسبوع، يكون هدفها التركيز على قراءة عمارة معينة، فمن أجل فهم أعمال معمار معين بإسبانيا، تجدني أقوم بزيارة كل أعماله، ومن خلال هذه الزيارات والجولات أعمل على قراءة الكيفية التّي تأثر بها المعماريين المعاصرين والشباب بأعماله وأحاول فهم المكان الذي وصل إليه كلّ منهم بهذا الفكر.

برأيك هل توجد عمارة عربية حديثة بنفس المستوى العالمي؟

كان لكثير من المعماريين غير العرب مداخلات في الوطن العربي، مثل جون بووسون، ولويس كان في العراق مثلًا.

وُجدت محاولات لإنشاء عمارة محلية وترجمة الإرث المعماري هناك، ويناقش المعماري خالد السلطاني هذه الظاهرة في كتابه تناص معماري.

ما يهمني في هذا الموضوع كيف يقرأ ويترجم كل منا ثقافة الآخر، كيف أرى الآخر وكيف يراني هو. من ناحيتي، تخرجت أنا وشريكي الإيطالي من الدفعة ذاتها وبدأنا حينها بالمشاركة في المسابقات المعمارية وكنا نسافر ونقوم بالجولات سوياً، خلق اختلاف الثقافات بيننا حواراً دائماً في زياراتنا، فكان كل منا يقرأ العمارة بطريقة مختلفة.

مشاهد غير متكملة المعمار إلياس خوري. مقابلة ARCHNET، مشاهد غير مكتملة.

أحد الأسباب التي تجعل الحوار مهماً في العمارة هي ألفةُ الأشخاص على مشاهد معينة، يخلق ذلك لديهم حالة من الاعتياد تسلبهم القدرة على رؤية الجمال فيما اعتادوا على رؤيته بشكل دائم. استطعت فهم هذا التأثير عند عودتي لفلسطين بعد 12 عاماً من الاغتراب. أثناء محاولاتي في فهم ما اختلف عليّ بين إيطاليا وفلسطين، وجدت أن ما نراه هنا حولنا في فلسطين هو مشاهد غير مكتملة وأجزاء من العمارة، فحتى لو كان أحد المنازل مكتملاً، فالمنزل بجواره غير مكتمل. أما في إيطاليا، كنت قادراً على رؤية المشهد في أي شارع بالصورة النهائية، وهذا برأيي سبب الراحة النفسية التي كنت أشعر بها عندما أدخل أوروبا والتي لا يشعر بها الشخص هنا. قد يكون ذلك بسبب الجهد الذي تطلبه بيئتنا ببعض أجزائها المشوهة والشعور الدائم بالحاجة إلى تركيب الصورة مثل قطع الأحجية أو الإضافة عليها حتى تنسجم مع بقية محيطها.

ما هي المسببات التي أسهمت بتطور ونجاح العمارة الحديثة في هذه المدن مقارنة بمدننا العربية؟

عندما يريد أحد معماريي الغرب اليوم أن يقوم بتصميم مبنى يقوم بفتح المراجع المعاصرة الخاصة بمجتمعه وثقافته فيجد وفرة من النماذج التي يمكن التعلم منها، فتعلم العمارة الغربية وتطويرها في مجتمعاتها سليم بسبب وجود تسلسل معرفي واضح، حيث يمكن لأي إنسان مهتم بموضوع ما أن يبحث ويتعلم.

أما في مجتمعاتنا العربية فيوجد انقطاع في هذا العلم والوعي بتأثير العمارة على بقية جوانب الحياة. كشخص عربي عندما أريد التعلم عن العمارة المحلية الفلسطينية فيتوجب عليّ العودة بالزمن لأجد ما يساعدني بتطوير فكري، فلا يوجد اليوم ما يكفي من التجارب المحلية العربية المعاصرة التي يمكن أن تشكل قاعدة فكرية يستطيع المعماري العربي المعاصر أن يرتكز عليها.

بالمقارنة بين المدن المتوسطية والمدن العربية نجد وضع العمارة العربية هو ذاته بالفن والسينما. تعكس العمارة وضع شعبها ومجتمعها، فمن أجل أن يستطيع شخص ما البدء بخلق شيء ما فهو بحاجة لراحة نفسية وتفرغ له، أما مجتمعاتنا اليوم تعاني من الحروب والأزمات حيث لا يوجد محاولات لبناء المجتمع، وتعتبر العمارة في مجتمعاتنا نوعاً من الرفاهية الاجتماعية، أما الدّول التي تتسم بنوع من الاستقرار بدأت بالبناء وبدأ يظهر فيها الوعي بأهمية ذلك.

برأيك لماذا لا نرى العمارة العربية الحديثة تحمل الطابع المحلي للمكان التي تولد فيه؟

بوجهة نظري تعود هذه الظاهرة إلى ثقافة كل مجتمع، فما يحدث وينتج في عُمان يختلف عن ما يحدث في قطر، بعض الدول تتبنى رؤيةً تحصرُ التحضر والتقدم باستنساخ مدن الغرب، نرى في بعض دول الخليج مشهداً يسيطر عليه الجانب الرأسمالي وعمارة تقتصر على جني الأموال عوضاً عن بناء ثقافة محلية. أما على الجانب الآخر، وعلى الرغم من محدودية الموارد في عَمَّان يوجد معماريون يحاولون بناء عمارة محلية، يدعم هذه المحاولات وجود جامعات وثقافة تؤمن بهذا النوع من البناء.

أما في العراق مثلاً وجِدت محاولات لخلق عمارة محلية، وظهرت أسماء مفكرين وفنانين ثم حدث انقطاع في هذه المحاولات. وفي بيروت نرى مثالاً عن معماريين درسوا في الغرب وتأثروا بالعمارة الغربية وحاولوا عند عودتهم الإضافة على العمارة المحلية. هذا التفاوت يعكس وضع كل دولة وكل شعب.

العمارة في دبي
عمَّان (مركز مدينة)

ما هو الحد الفاصل بين مبنى محلي معاصر و مبنى لا هوية له؟

تتطلب الإجابة عن هذا السؤال تعريف العمارة المحلية وتعريف العمارة المعولمة. العمارة المحلية هي نتاج لتراكم الخبرات والعلاقات مع الطبيعة، والمناخ، والإضاءة، العمارة المحلية رصيد يتم الإضافة له بشكل مستمر، حيث لا يمكن بناء عمارة محلية تقوم على الإبهار والاستعراض، فهي لا ترتكز على حاسة البصر فقط، و إنما تخلق علاقة مع الحواس كلها في أغلب الأحيان، إضافة للعلاقة مع عادات وتقاليد وطقوس وديانة وحرمات المجتمع ذاته، هذه المكونات تجتمع كلها لتكوين العمارة المحلية. والسؤال هنا كيف يمكن ترجمة هذه العلاقات لعمارة؟ إن عملية التصميم تنتج عن التنقل بين المسقط والمقطع، تصميم الداخل والخارج والعلاقة بينهما، ودراسة التنقل والحركة في المبنى، أما الواجهات فتأتي في المراحل النهائية وتكون نتاجاً لمراحل العمل على المبنى. ويمكننا هنا تعريف معنى الشعور بالانتماء لعمارة ما، الانتماء يعني الإحساس بأن المبنى يقوم بعناقي بلحظة ما، أو عندما أستطيع الشعور بعلاقتي مع شجرة، مع النباتات، مع الشمس.

ترتكز العمارة المعولمة على الاستعراض، حيث يبدأ التصميم من الواجهات والكتلة ثلاثية الأبعاد، وهذا الأسلوب يوضح سيطرة الحاسب على عملية التصميم، ويكون الهدف منه الحصول على منتج غريب وملفت.

هذا الأسلوب لا ينتمي للعمارة المحلية، حيثُ أنّ العمارة المحلية ترتكز على التكرار، فالأبنية المحلية لعمارة ما تكون متشابهة، إذ كان كل شخص يقوم ببناء منزل يشبه منزل جاره دون محاولة عمل منتج غريب من ناحية الشكل، فهما يعتمدان على نفس الخبرات في البناء، أما عندما تظهر هذه النزعة تبدأ الغربة بين الإنسان وعمارته المحلية ويختفي مفهوم التواضع في البناء.

حدثنا عن تكوين القرى الفلسطينة، كيف تتشكل فراغات النسيج العمراني في قرى فلسطين؟

بُنيت نسبة كبيرة من القرى الفلسطينية على الجبال، وأهم ما يميزها انسجامها مع الطبيعة الجبلية والمحيط. بداية يمكن رؤية وملاحظة هذا الانسجام بمادة البناء وهي الحجر، حيث يتم وضع أحجار البناء حتى تتبع خطوط الطبوغرافيا. ثانيًا، التركيب المعماري للبيوت كان عبارة عن مكعبات متراصفة، تبدأ العائلة بمكعب، تتوسع بمكعب آخر، يبني الجار منزلًا مجاورًا فتضيف العائلة مكعبًا إضافيًا ويُخلَق الحوش (الفناء) الداخلي للمنزل. وهو ما يعطي المنزل خصوصية، وهذا ما أعطى القرى والمنازل شكلها.

من جهة أخرى، لم يكن في ذلك الوقت ما يسمى بالارتداد (نظام الوجائب). إن إضافة الارتداد أمام وعلى أطراف المنازل بدأ بتفكيك النسيج المتراص والمتماسك، فأصبح الحوش أو هذا الفراغ المضاف يفرض وجود سور لتحقيق الخصوصية، ثم أصبح من الصعب بناء الحوش بسبب المساحة الضائعة بوجود ارتداد، هذه العوامل قامت بتفتيت النسيج الذي بني حجرًا على حجر.

حدثنا عن رأيك بالمحاولات المعاصرة لبناء مساكن وعمارة مستدامة.

لا أعتقد أن عمارتنا اليوم تمت للاستدامة بصلة، إن مفهوم العمارة المستدامة الحالي ينتج أبنية مكلفة جدًا مبنية بمواد غير مستدامة. إن وجود التمويل الكبير والتكنولوجيا بين أيدينا أعطى عنجهيةً للإنسان، أصبح الإنسان يؤمن بأنه قادر على فعل أي شيء، مثل تغيير طبيعة الأرض والوصول لعمقها، وبذلك تعالى الإنسان على الطبيعة، فبدأنا نفقد العناصر البسيطة التي تربطنا بالأرض وابتعدنا عنها فثارت علينا. أصبحنا اليوم نستهلك كثيرًا من الطاقة ونواجه المشاكل البيئية و المناخية، مثالًا على ذلك نرى اليوم سماكة جدران المباني هي 20 سم فقط، بينما كانت أكثر من ذلك من بكثير، هذه الجدران مع التوجيه السليم قد تم استبدالها بتقنيات التكييف.

مع ذلك نرى اليوم في إسبانيا والبرتغال مثلًا نماذجًا حساسة وواعية لبناء عمارة بمواد وتقنيات محلية أنتجت حلولًا مستدامة سليمة. على سبيل المثال، قمت بزيارة لجزيرة مايوركا في إسبانيا، يقوم فيها بعض المعماريين الشباب بمحاولات بناء باستخدام الحجر بأساليب متقنة عالية الحساسية والشاعرية وبحلول معمارية سليمة، وهذه عمارة جديرة بأن نقف عندها لنتعلم منها.

وهنا نتوقف لنسأل أنفسنا، ماذا يمكننا أن نأخذ من العمارة الغربية؟ يمكن أن يجيب كل شخص عن هذا السؤال بالعودة لثقافته، فاليوم ماهو معروض في السوق عمارة معولمة يقوم شبابنا بالتعلم منها، بينما يوجد تجارب أخرى حقيقية أنتجها أشخاص على درجة عالية من الثقافة تستحق الدراسة والاستفادة منها.

إن أهم المهارات التي يجب علينا تطويرها هي مهارة الانتقاء، فلدينا اليوم إمكانية للوصول إلى كم هائل من المعلومات والاطلاع على جميع التوجهات، تكمن المهارة في أن يكون الشخص قادرًا على اختيار ما يحمل الثقافة والقيم المناسبة لمجتمعه وخلق جو وروح للمكان تنسجم مع هذه الثقافة. اليوم ننظر إلى أمهاتنا فهي تستمع لموسيقا فيروز مثلًا عوضًا عن نوع آخر من الموسيقى، وفهم روح المجتمع في الموسيقا ينطبق على العمارة أيضاً.

حدثنا عن المنهج التصميمي والفني الذي تتبعه في مشاريعك التصميمية مثل بيت 12 زيتونة وغيرها؟ وكيف تتعامل مع العمارة كعمارة حسية؟

بيت 12 زيتونة هو محاولة لقراءة هوية المكان والبيت الفلسطيني، يحدد المشروع وجود 12 شجرة زيتون معمرة في منطقة السهلات التي كانت غنية بكروم الزيتون وقد نجا منها القليل بسبب ما يواجهها من تهديد نتيجة المد والتوسع العمراني، حيث كان كل شخص يريد البناء يقوم باقتلاع أشجار الزيتون ويحول أرضه لورقة بيضاء ليستطيع بناء السيرك الذي يريده..

في أول زيارة ميدانية لي إلى الأرض المخصصة للبناء انتابني شعور بالرهبة والعجز، وعلمت حينها أنني لن أقوم باقتلاع هذه الأشجار. بالعودة إلى العمارة الفلسطينية، وجدت أنها مكونة من وحدات إنشائية مكعبة تستخدم الأقواس، أبعاد الوحدة 5*5م فرضها النظام الإنشائي وتقنية البناء، إذ لم يكن هناك إمكانية لبناء مبانٍ ذات مجازات واسعة، خلق هذا انسجاماً بالنسيج وترابطًا طبيعيًا بسبب مادة البناء وعمرانيًا بسبب تشابه الأبنية مع بعضها.

بيت 12 زيتونة مع المحيط

انطلقت من نموذج المكعب بوحدة 5*5م إضافة لوحدة التباعد بين أشجار الزيتون عند زراعتها 10م، قمت بتحريك المكعبات بين أشجار الزيتون، وكنت أقوم بهذا عن طريق زيارة أرض المنزل واتخاذ القرارات المتعلقة بتموضع هذه الوحدات المكعبة وأماكن الفتح فيها .

ترافق مع ذلك عملية تحليل وقراءة الانحدار والطبوغرافيا. حاولت قراءة حساسية تموضع المصاطب على الجرف في عمارة القرى الفلسطينية، تأتي أهمية المصطبة هنا من كونها عنصر الربط بين الأرض والبيت، وتنعكس هذه العلاقة مع الطبوغرافيا في الفراغات الداخلية للمنزل، فحتى يتماشى البيت مع الموقع كان يتم ربط الغرف والفراغات بفرق منسوب بضع درجات بين أحدها والآخر، والتحرك بين هذه المناسيب  يغني الأحاسيس بسبب التنقل بين العلاقة الأفقية والشاقولية.

صور اثناء التنفيذ

وبسبب البنية المتراكبة للمنزل الفلسطيني كان له عدة أسطح يمكن لسكان المنزل التنزه عليها والتنقل فيما بينها، واعتاد الناس في الأيام الحارة استخدام الأسطح ليلًا للنوم، فبنوا على الأسطح مشربيات من البراطيش الحجرية التي حققت الخصوصية وسمحت بتبادل الهواء، وقد قمت بمحاكاة هذه العناصر في التصميم.

يضاف على العوامل الطبيعية والموقع إغلاقه من الخارج وانفتاحه على الداخل، فحتى بالنظر إليه من الخارج لا يمكن رؤية الفتح والشبابيك. عند عبور الباب، يبدأ طقس الدخول عبر مسار يعبر بين أشجار الزيتون دون القدرة على معرفة ما في الداخل، أستطيع سماع أصوات العصافير والحياة داخلًا عند الدخول إلى المنزل، أنتقل من حوش إلى حوش وأبدأُ بكشف أجزاء البيت الواحد تلو الآخر.

بالحديث عن الفكرة يمكنني أن آتي على ذكر البيوت في دمشق القديمة، وعنصر المفاجأة والاكتشاف الذي يظهر بالانتقال من الخارج إلى الداخل، هذا الانتقال لا يغني المشهد بصريًا فقط وإنما حسيًا أيضًا، إنّ القشعريرة التي يشعر بها الإنسان عندما يخرج من مكان بارد فتلامس الشمس جسده هي مثال عن أحد هذه المشاعر التي حاولت خلقها في بيت 12 زيتونة.

حدثنا عن مواد البناء المستخدمة في مشروع بيت 12 زيتونة:

استخدمتُ عدة مواد طبيعية في البناء والإكساء، بداية كانت الأرضيات من حجر الجليل، والذي يأتي بنوعين، الأول رمادي والثّاني رملي، استخدمتُ الحجر الرمادي في المشربيات على الأسطح، البيت مكسي من بقصارة حجر الجليل، استعملت السيراميك بلون أخضر زيتوني، وأما إطارات الأبواب والنوافذ ومعظم أجزاء المطبخ والأرضيات هي من خشب طبيعي.

ذكرت سابقًا في حوارنا أثر الارتداد على النسيج العمراني للقرى الفلسطينية، حدثنا عن وجهة نظرك في أثر معايير التصميم العالمية (architectural standards) على العمارة:

وظيفتنا اليوم بالنسبة لنا نحن المعماريين أن نعطي حلولًا بديلة، مثلًا يُفرض علينا الالتزام بالارتداد ولا نستطيع تغيير ذلك، ففي هذه الحالة يتحول التحدي إلى كيفية إدخال الارتداد للداخل وإعادة استخدامه، مثلًا يمكننا ذلك بتحويله لحوش (فناء) عندها يتغير تعريف الفراغ من ارتداد إلى حوش ويصبح جزءًا  من عملية التخطيط واستغلال الفراغ.

اليوم يطفو توجه العمارة الوظيفية على السطح (functional architecture) ويُعتقد أن واجب المعماري إيجاد وظيفة لكل 1سم يصممه، أما برأيي فيتوجب علينا إعادة النظر في الكثير من أمثال هذه القضايا. العمارة حياة ويجب أن تمتلك القابلية لتغيير وظيفتها، حيث أن ترك مساحة لعامل المستقبل يجعل العمارة قادرة على استيعاب التغيرات في حياة مستخدميها، فتمنحهم الإحساس بالحرية في هذا الفراغ وهذه الحرية هي جزء من رفاهية الحياة.

حدثنا عن تجربتك بترميم كل من خان الوكالة و خان جلجولية. برأيك كيف تسهم عملية إعادة توظيف المباني التاريخية في التنمية المجتمعية وإعادة ذاكرة المكان؟

خان الوكالة هو مشروع تم العمل عليه على عدة مراحل وجاءت مداخلتي بمرحلة متقدمة، حيث طلب مني التدخل بالساحات الداخلية وبعض الواجهات الخارجية. ما يميز هذا الخان عن غيره انسجامه مع نسيج القرية القديمة وشكله غير المنتظم والأنماط المستخدمة فيه وهنا يكمن التحدي وصعوبة العمل .

طرأ العديد من التغيرات على الخان، تهدّم جزء منه في ثلاثينيات القرن الماضي، وفي التسعينات هدم الاجتياح الاسرائيلي الواجهة الرئيسية. تمت إعادة بناء الواجهة، أما فيما يخص الساحات الرئيسية توجهت المعالجة لاستخدام نماذج وأشكال متعددة من الحجارة كمحاولة لجعلها تتأقلم مع الواجهات الغير المنظمة، تمت إعادة توظيف الخان وإضافة بعض الوظائف كالمطعم والمتحف.

أما خان جلجولية فيعود طرازه للعهد المملوكي، وكانت أكبر التحديات التي واجهناها هي انخفاض الميزانية المقترحة للمشروع على الرغم من وضع الخان المتدهور والحاجة إلى مبالغ هائلة لعملية ترميمه. كانت غايتي الأساسية من هذا العمل تحفيز الناس لزيارة المبنى من جديد. تمت المداخلة عن طريق عمل بنية structure بسيطة بارتفاع المبنى وحافظت على الوحدة الأساسية (module) للبناء وهي 3*3 م.

في المداخلات الحديثة على الأبنية القديمة تكمن وظيفة العمارة في خلق هذا الحوار بين القديم والحديث والإصغاء لحوار المبنى الجديد سواء  مع المبنى القديم أو مع الجار أو الزيتونة. حسب رأيي تكمن جمالية العمارة التقليدية في استمراريتها ومرونتها وقدرتها على العطاء عن طريق استيعاب العديد من الوظائف المختلفة. في الوقت ذاته، العمارة القديمة ليست مقدسة لا يمكن المساس بها، حيث يمكنها المحافظة على طبيعتها و التأقلم بحساسية وتواضع مع المتغيرات وإعادة التوظيف.

صور خان الوكالة 

صور خان جلجولية

حدثنا عن أهمية الموروث المعماري والثقافي في العمارة المعاصرة:

 لا يوجد مكان نتعامل معه بلا هوية أو بلا بقايا، السؤال هو كيف يمكننا تنمية عملية الإصغاء خصيصًا عند تولد الرغبة لدى المعماري بالقيام بتصاميم غريبة وملفتة بهدف عمل منتج شخصي إرضاءً لذاته. عمليًا في بعض الأوقات عند الدخول لمبنى نشعر بالألفة والانتماء دون فهم السبب. باللاوعي نحن نقوم بتخزين الأشكال والحجوم مثل المربع والمكعب فالإنسان عبارة عن ذاكرة، ذاكرة ما يبنيه في طفولته كما أنّه ذاكرة أحاسيسه ومشاعره، لذلك نلحظ عند دخول الأشخاص لمبنى قديم يتكلمون عنه بشكل شاعري “ذكرني ببيت جدي، بيت أهلي، دمشق القديمة..” لكن لا يحدث ذلك عند الدخول إلى بيت حديث بعيد عن الموروث.

وعلى سبيل المثال “المفارقة التي صادفتها بعد بناء بيت 12 زيتونة كانت إعجاب الجيران بأشجار الزيتون في أحواش المنزل. على الرغم من أنّ أهالي هذا المكان اقتلعوا الأشجار من أراضيهم لبناء منازلهم وقاموا بتحطيبها، نجدهم يقومون بتعليق صور أشجار الزيتون على جدران منازلهم.”

ما هو تأثير العمارة ودورها في حفظ وإعادة ذاكرة المكان والمدن، وكيف يمكن أن تكون أداة لحفظ الهوية وتعزيز الانتماء والمقاومة (خاصة في حالة مثل فلسطين)؟

كمعماريين، أدواتنا ولغتنا للمقاومة هي العمارة كمدى فهمنا لمجتمعاتنا وحفاظنا على هويتنا، وأكبر شاهد على ذلك وجود بقايا القرى والحجر والشجر رغم محاولات الإسرائيليين بمحي كل شيء. فعند امتلاكي مخزونًا ثقافيًا وموروثًا يمكنني الإضافة للثقافة المعمارية عوضًا عن البناء من الصفر. المفارقة هنا أن العمارة الإسرائيلية هي عمارة بنيت من الصفر ولا تمتلك أية أبعاد، أما في فلسطين، نحن نمتلك البعد الزمني والثقافي.

برأيك ما الذي يعيق انتشار مفاهيم العمارة المحلية النابعة من نسيج الأرض والمجتمع؟

إنّ الركيزة الأساسية لانتشار هذه المفاهيم هو وجود الثقافة والقناعة، والوعي بأنّ ليس كل ما تطرحه العولمة صحيح ومريح بالضرورة، حيث أنّ وجود هذه المعرفة يجعل المجتمع قادراً على تقييم المدخلات ومعرفة ما هو دخيل على المجتمع أما بدونها فسوف نبقى هشّين تجاه كل ما يدخل للعمارة. حسب رأيي، معرفتنا تحدد الطريق الذي نختاره وكيفية استخدامنا للتكنولوجيا واختيار الأنسب لنا من مواد البناء. مثلًا قد يتم التسويق للبورسلان كمادة ذات ديمومة فنقوم بالتخلي عن الحجر المحلي. يجدر الإشارة أنّه لولا وجود مالك مثقف لبيت 12 زيتونة كان سيكون من الصعب تنفيذ المشروع بصيغته الحالية.

كيف يمكن توجيه النظر العام لعمارة محلية أكثر استدامة وطبيعية عوضًا عن استخدام حلول هجينة أو مشوهة؟

أتصور أنّ الصعوبة بالنسبة للمستخدم تكمن بعدم وجود بديل فهو دائمًا محاط بنفس الصور، أما حين يتم طرح حلول بديلة يبدأ الإنسان بمقاومة الحلول الدخيلة واختيار الأنسب له. إنّ القرار النهائي هو للعمل الميداني ووجود تجسيد ملموس لفكر سليم على أرض الواقع، فلا يمتلك كل النّاس نفس القدرة على التخيل التي قد يمتلكها المعماري، وعدم وجود حلول بديلة يجعل من الصعب على الناس تغيير نظرتها ومن الصعب إقناعهم أنّ هذا الحل يمكن تنفيذه. عندما تكثر نماذج العمارة المحلية سوف يصبح المجتمع قادرًا على لمسها والتجاوب معها ويصبح التغيير ممكنًا، لكن الأمر يتطلب إصرارًا وتضحية.

في الواقع اتباع هذا المنهج صعب وليس بالأمر السهل، لم أتنازل يومًا عن تحقيق حلمي بعمل ما أهدف له، هذه القناعة كلفتني الكثير من الوقت لأجد الظروف والفرصة المناسبة، ولم أستطع إنجاز عدد كبير من المشاريع بسبب ذلك. كان لهذا التأثير الأكبر على مردودي المادي، فلم تكن السيطرة على هذا الجزء بالأمر السهل، لكن لم يكن ذلك هدفي يوماً، كان عقلي منشغلًا بخلق ما يحرك مشاعري ويجعلني أشعر أنّني قدمت في حياتي منجزًا مفيدًا.

إن وجود عمارة يستدعي وجود نقد للعمارة ومجلات وكتب، فنقد العمارة هي وظيفة هدفها الارتقاء وإثراء العمارة، وهذا ما نفتقد وفرته في عالمنا العربي. ما أحاول قوله دائمًا هو إخبار العالم أن يقرؤوا لكاتب عربي قبل أن يقرؤوا لغربي، وأن يسمعوا موسيقا تمثلنا قبل أن يسمعوا موسيقا أُخرى، يجب أن نعرف كيف نقرأ هويتنا، وممن نتعلم، وأن نستطيع تمييز القيم التي تنتمي لنا، وكيف تتمثل حتّى نبني عمارتنا بالشكل الذي يمثلنا. وأتصوّر أنّ حديثنا اليوم هو جزء من هذه المحاولة.

صور بعض المشاريع التصميمية

منزل سلامي

السبسطية، فلسطين – الياس خوري وديفيد باغلياريني 

معرض الصور:

فريق الإعداد :

إعداد : م. ضحى النوريلين وردة

تدقيق لغوي : م. مروة المخلف

نشر إلكتروني :م. ريم الخلوف

مقالات قد تعجبك

Amale_Andraos
من الشرق الأوسط إلى الغرب، عن الأكاديمية والعمل. لقاء مع د. امال اندراوس
صورة 1
حوار مع المهندسة رضوى رستم
Untitled-1
تقنيات ومواد البناء الحديثة
01-Villa-Rotonda-Palladio
مراحل تطور بناء الفلل السكنية عبر الزمن
مقابلة مع المهندس باسم البرغوثي
cropped-9a1bbbb4-2007-4f21-893f-3bc699f9e1d7
مفهوم الفيلا السكنية
Scroll to Top