نسيج الحياة من حمص- السوق المسقوف

في قلب حمص العدية، حيث تنبض الأزقة بروح الناس وحكاياتهم، يمثل السوق المسقوف شاهداً على قرون من التبادل والعيش المشترك. ليس مجرد ممرٍ تجاري، بل ذاكرة معمارية واجتماعية تُجسّد نسيج الحياة في مدينة كانت عقدة سورية وقلبها النابض عرفت كيف تجمع الناس رغم اختلافاتهم. في هذا المقال، نأخذكم في جولة توثيقية بين تفاصيل السوق الشعبي في حمص، من تاريخه العريق إلى واقعه المؤلم خلال الحرب، وترميمه الذي حمل علامات الأمل والتحدي معاً.

الذاكرة الحية لأهالي حمص حيث التفت الذكريات مع التفافاته وانطبعت اللحظات في زواياه. صور ولقطات لا يمكن لعدسة أو قلم أن ينقلها، إنها حمص وإنه قلب الحياة الاجتماعية والاقتصادية في المدينة!
يشكل السوق الشعبي في حمص *السوق المسقوف* أو مايعرف ب*السوق المقبي* قلب المدينة النابض بشكله الشرياني المتشعب الذاكرة المشتركة لحمص وزوارها ليس مجرد مكان للبيع والشراء بل فضاء اجتماعي وثقافي يعكس روح المدينة وهويتها ففي الأزقة الضيقة المسقوفة بقبوات تتقاطع الحكايات، وتنسج العلاقات بين الباعة والزبائن بين الشعوب بمختلف صفاتها وطوائفها بين الحرفيين والجيل الجديد من المارة.
تعالوا معنا في رحلة مميزة لنستكشف أهمية الأسواق الشعبية في المدن، ونتعرف بصورة أعمق على سوق حمص الشعبي النابض بالتراث والحضارة!

السوق المسقوف بعد الترميم والتحرير

أهمية السوق:


الأسواق الشعبية مثل هذا السوق التراثي ليست فقط واجهة اقتصادية بل مرآة تعكس الماضي وترينا الحاضر يحمل عبق التاريخ في حجارته القديمة ويعيد سرد قصص الناس الذين مروا منه جاعلاً منه جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي للمدينة.
ويُعد السوق الشعبي في مدينة حمص من أقدم وأكبر الأسواق في المدينة، و يضم عدداً كبيراً من المحلات بمساحات مختلفة وفقاً لتوثيق دائرة الأثار والمتاحف في حمص بلغ عدد المحلات في الأسواق قبل عام 2011 حوالي 890 محلاً موزعاً على 13 سوقاً فرعياً وهي: سوق النوري-سوق الحسبة-البازرباشي-المنسوجات-الصاغة-القيصرية المجاور لخان القيصرية -العبي-المعصرة-العطارين-العرب الذي كان الوساطة بين البدو والحضر -الفرو-النحاسين-الخياطين والنجارين.

مسقط السوق المسوق

الصفات المعمارية للأسواق الشعبية:

مازالت تلك الأسواق محافظة على صفات بنائها المعماري الأثري إذ يعود تاريخ تشييد جزء كبير منها إلى العهدين الأيوبي والمملوكي، وأجزاء أخرى تعود إلى زمن الاحتلال العثماني.
يمتاز المسقوف بنمط العمارة الإسلامية إذ يتغطى أغلبه بسقف نصف اسطواني *قبوة* وعقود حجرية مقببة ضخمة، وأما المحلات مبنية بواجهات حجرية على شكل أقواس نصف دائرية بأقطار مختلفة وأعمدة تاجية تتوضع عليها أشكال هندسية بزخارف قديمة ومن الأعلى نوافذ ضخمة بأقواس للتهوية والإنارة وعند تلاقي الأسواق المختلفة سواء سوقين أو اكثر تبرز قبة تبرز التقاطع وتباهي بشكلها الكلاسيكي ذا الانطباع الحمصي الأصيل.
تكسو الأرض الحجارة البازلتية التي تميز البناء الحمصي القديم وهذا لتوفرها في مناطق الوعر غربي حمص لكنك تجد في بعض الأسواق سقوفاً من حجارة كلسية وقنب بعضها على شكل قباب بفتحات تهوية. ويتميز مدخل سوق القيصرية بمصراع خشبي مصفح يتوسطه باب صغير يعود إلى عام 1300م يليه دهليز مسقوف يؤدي إلى درج حجري يصل بدوره إلى الطابق العلوي ذي الـ27 محلاً محاطة بـ20 عموداً من الحجر الأبيض تحمل سقوفاً خشبية وتظهر داخل أحد المحلات في سوق المعصرة آثار المعصرة الحجرية.

أثر السوق الشعبي على الحياة الاجتماعية في المدينة:

يُعد السوق المسقوف من أحد مناطق حمص القليلة التي كانت تجمع نسيج حمص السكاني كاملاً حيث كانت الأسواق المسقوفة تجمع بين مختلف الطوائف والأديان في فضاء مشترك يعزز التعايش والتواصل بين السكان وتبرز كيف أن هذه الأسواق بتصميمها التقليدي والعضوي ساهمت في خلق نسيج متماسك يعكس التنوع الثقافي والديني في حمص.
حيث أن اصطفاف المحلات والمكاتب ساهم في تعزيز الروابط الاجتماعية بين سكان المدينة، ويعتبر السوق المسقوف من المناطق القليلة التي تعزز التماسك الاجتماعي نظراً لمساهمة التخطيط العمراني الخاطئ والفساد في تقسيم المجتمع السوري إلى أحياء منعزلة طائفياً واجتماعياً مما مهد الطريق إلى الانقسام والعنف.

واقع السوق الشعبي في حمص خلال فترة الثورة السورية:

تدمر السوق الشعبي ضمن سنين الثورة السورية مثله مثل أكثر من 70% من المدينة، وهنا عاد أيضاً ليسجل دخول جديد في سجلات التاريخ بترميم خاطئ يثبت أكثر وأكثر الفشل والفساد الذي كان سائداً في فترة حكم نظام الأسد.
فلدينا الآن العهدين الأيوبي والمملوكي وأجزاء أخرى تعود إلى زمن الاحتلال العثماني، وترميم فاشل في عهد الطاغية الأسدية.
بدأت أعمال الترميم والتأهيل بالتنسيق بين محافظة حمص ومنظمة الأمم المتحدة الفرع الإنمائي وبإشراف المديرية العامة للآثار والمتاحف وعلى مساحة 42000 متراً مربعاً حيث تم استبدال التغطية المعدنية المتضررة بأخرى حديثة تأخذ شكلاً هرميا،ً ذات طابع تراثي يقارب مرحلة الثلاثينات.
ويشمل الترميم إصلاح الأضرار الإنشائية وتعويض الحجارة الناقصة وإعادة بناء بعض المحال المدمرة حسب المواصفات الموضوعة من قبل دائرة الآثار والمتاحف والمخططات المختصة بها وتمت إعادة البناء بنفس الحجارة القديمة بعد فرزها وترحيل الأنقاض وتركيب غلاقات جديدة و”آرمات” وشبك معدني موحد للنوافذ والمحال وإصلاح البنية التحتية وترميم الأرضيات الحجرية.

 

السوق المسقوف بعد تعرضه للتخريب
السوق المسقوف بعد الترميم

ودائماً نذكر أن هذا السوق المسقوف ليس مجرد مصفوفات حجرية أو نقطة بيع وشراء، بل هو نبضٌ حي في ذاكرة المدينة، يحفظ تفاصيل الحياة اليومية، ويعكس عمق التفاعل الاجتماعي والثقافي الذي ميّز حمص عبر العصور. ورغم ما أصابه من دمار خلال سنوات الحرب، فإن عملية ترميمه تمثل محاولة لإعادة ترميم ذاكرة جماعية وحيّز اجتماعي كان، ولا يزال، يعبّر عن تنوع المدينة وتماسكها.
ففي كل زاوية من زواياه، وكل حجر من حجارته البازلتية، يكمن حنين وحنكة، ويستمر السوق في مقاومة النسيان، شاهداً على أن الروح الحمصية لا تُهدم ولا تُنسى، بل تتجدد مع كل عودة إلى هذه الأزقة المسقوفة بالحكايات.
إنها حمص وإنه القلب النابض فينا وفيها.

 

معرض الصور:

المراجع:

فريق الإعداد:

إعداد: م. سالي الغنطاوي
نشر إلكتروني: المنتصر بالله بياعة

التدقيق العلمي: م. ليلى عمر عدرا
التدقيق اللغوي:م. ليلى عمر عدرا

مقالات قد تعجبك

1
حديقة إفريقيا في تونس
1656592731-p05517_ira_00
متحف ارغو للفن المعاصر (إيران)
ا5
قرية الأطفال SOS في العقبة، الأردن
za’atari-camp-refugee-school-architecture_dezeen_hero-2-852x479
مدرسة منخفضة التكلفة تسع لثلاثة آلاف طفل من مخيمات اللاجئين
VS_-_C_Flavio_Bragaia
فيلا سافوي في باريس , فرنسا للمعماري لوكوربوزييه .
Amale_Andraos
من الشرق الأوسط إلى الغرب، عن الأكاديمية والعمل. لقاء مع د. امال اندراوس
Scroll to Top