كرسي S تحفة verner panton

كرسي S تحفةٌ تتحدى الزمن!
أول كرسي بلاستيكي في العالم يُصنع من قطعة واحدة دون أرجل، صممه فيرنر بانتون عام 1959 ليثور على قيود التصميم التقليدي.
بشكله العضوي المتموج وألوانه الصارخة، تحول من أيقونة النخبة إلى رمزٍ شعبي، وبات نموذجاً للاستدامة بإعادة تدوير 100% من مواده.

كرسي S: تحفة verner panton (أيقونة التصميم الحديث وتحول في عالم الأثاث):

كرسي S (المعروف أيضاً باسم كرسي Panton Chair) هو أول كرسي في العالم مصنوع من البلاستيك بتقنية القولبة بالحقن، صممه المعماري الدنماركي “verner panton” عام 1959 وأنتجته شركة ” vitra ” عام 1967. يُجسد هذا الكرسي ثورة في استخدام المواد وتحدي قوانين الفيزياء عبر شكله العضوي المتدفق، حيث جمع بين الجمال والوظيفية، ليصبح أيقونة تصميمية في القرن العشرين وأحد رموز حركة (البوب آرت).
اخترت كرسي S كموضوع لهذا المقال لسبعة أسباب: أولاً، كونه نموذجاً لتلاقي الفن والهندسة في التصميم الصناعي. ثانياً، ثورته على المفاهيم الكلاسيكية للأثاث عبر شكله العضوي الحر. ثالثاً، كأول كرسي بلاستيكي ذو قاعدة كابولية (Cantilever) يتحمل وزن الإنسان. رابعاً، تأثيره الثقافي كرمز للتحرر في ستينيات القرن الماضي. خامساً، استمراريته الإنتاجية لأكثر من 50 عاماً. سادساً، تمثيله لتاريخ تطور المواد البلاستيكية. سابعاً، كحالة دراسة لفشل أولي ثم نجاح أسطوري في التصنيع.

المصمم المعماري (1926-1998) verner panton:

وُلد (verner panton) في الدنمارك، وتخرج من الأكاديمية الملكية للفنون في كوبنهاغن. عمل مع آرني جاكوبسن (مصمم كرسي Ant الشهير) قبل أن يؤسس استديو مستقل عام 1955. تميز بانتون بشغفه بتوظيف البلاستيك والألوان الصارخة، وتصميم “الفراغات الشاملة” حيث يندمج الأثاث مع الجدران والأسقف في تكوين واحد جميل. رؤيته القائمة على “التصميم للمستقبل” جعلت كرسي S تتويجاً لفلسفته. (Vitra Design Museum (2020).The Evolution of Plastic in Design)

المفهوم التصميمي- تحدّي الجاذبية:

ولدت فكرة الكرسي من سؤال: “هل يمكن صنع كرسي من مادة واحدة بدون أرجل؟”. حيث صمم بانتون الكرسي كشكل متصل يشبه حرف S مقلوباً، مستوحى من إنحناءات الجسم البشري.

واعتمد على ثلاث مبادئ:

الهيكل الكابولي: يعتمد على مقاومة البلاستيك للانحناء لنقل الأحمال من المقعد إلى القاعدة.
الشكل المتموج: يوزع الضغط على الجسم ويوفر راحة ديناميكية.
اللون كجزء من الهوية: الألوان الصريحة (أحمر، أزرق، أسود) تعكس روح عصر الفضاء. (Vitra (2024).Panton Chair)

التطوير الصناعي- معركة المواد:

واجه الكرسي تحديات صناعية كبيرة:

1959 –1967: فشلت النماذج الأولية من البوليستر المقوى بالفيبرجلاس في اختبارات المتانة.

1967–1970: الإصدار الأول من البولي يوريثان الصلب (Rigid PU) أنتجته فيترا، لكنه كان هشاً ويتشقق مع الوقت.

1970–1983: تصنيع الكرسي من بلاستيك (البوليستيرين) (PS) لكنه لم يكن صديقاً للبيئة.

1999: الإصدار الحالي الناجح من (البولي بروبيلين) (PP)، فهو مرن، متين، وقابل لإعادة التدوير بنسبة 100%.

التأثير الثقافي- أيقونة لا تموت:

– السياق التاريخي: صعد نجم الكرسي في ستينيات القرن الماضي، عصر الثورة وروح التمرد، مثل شكله الجريء متحرراً من الأشكال الوظيفية التقليدية.
– الظهور الإعلامي: ظهر في مجلة “فوغ” 1967 بعرض بصري ثوري، كما استخدم في فيلم Barbarella) 1968).
– الجوائز: حصل على جائزة iF Design Award. عام 1968، وجائزة Rosenthal studio prize، واعتبرته مجلة “تايم” من أهم 100 تصميم في التاريخ.

الدراسة التصميمية: جمال الشكل العضوي وملاءمته للوظيفة ضمن الفراغات:

الهيكل: لا مسامير ولا مفاصل، اعتمد على هندسة “الصدفة الرقيقة” (Thin Shell) لتحمل 110 كغ.

التجميع الرأسي: يمكن تطبيق 6 كراسي بارتفاع 86 سم، مما يوفر حلولاً للمساحات الصغيرة.

التوازن: مركز الثقل عند قاعدة الكرسي يمنع الانقلاب حتى عند الجلوس على طرفيه.

الهيكل الإنشائي: معجزة فيزيائية:

يعتمد الكرسي على “نظرية الصفائح الرقيقة” (Thin Shell Theory) في الهندسة الإنشائية. عند تطبيق حمل 110 كغ (الوزن القياسي للاختبار)، يتوزع الضغط عبر منحنياته المتتالية بدلاً من التركيز في نقطة واحدة. وهذا يحقق:

توفير المواد: سمك الهيكل لا يتجاوز 5 مم.

المرونة الديناميكية: يتمدد البولي بروبيلين عند الجلوس ثم يعود لشكله الأصلي دون تشوه.

اختبارات السلامة: يخضع الكرسي حالياً لـ 11 اختباراً تشمل الصدمات الحرارية والانحناء المتكرر (وفقاً لمعايير ISO 16122).

التفاعل مع البيئة المحيطة:

صمم بانتون الكرسي ليكون جزءاً من “مساحات سينستيتيك” (Synthetic Spaces) حيث:

اللون: يخلق حواراً بصرياً مع الجدران (ظهرت نسخ متطابقة مع ألوان جداريات ستينيات القرن).

الترتيب: تطبيقه ينتج منحوتات هندسية متغيرة (كما في معرض فيترا 1995).

الإضاءة: شفافية المواد في النسخ الملونة تخلق تأثيرات ضوئية عند تعرضها للإضاءة الخلفية.

التحليل النقدي: الإيجابيات والتحديات:

الإيجابيات:

ثورة الاستدامة: 100% من مواد الإصدار الحالي قابلة لإعادة التدوير.
تقريب التصميم للجمهور: انخفاض سعره بنسبة 70% منذ 1999 بسبب كفاءة الإنتاج.
التكيف: استخدامه في المستشفيات لمقاومته للمواد الكيميائية.

التحديات:

النسخ المبكرة: إصدارات البولي يوريثان (1967–1970) تطلبت قطع 2.3 كرسي لكل كرسي صالح بسبب عيوب التصنيع.
السياق الثقافي: اتُّهم بتعزيز “استهلاكية البوب آرت” في السبعينيات.
الراحة: بعض المستخدمين يجدون الشكل المنحني غير مريح للجلوس الطويل.

الأثر الاجتماعي: من نخبة المجتمع إلى الفئات الشعبية:

الستينيات: كان سعر الكرسي يعادل راتب شهرين للعامل المتوسط (حوالي 200 مارك ألماني)، مما جعله رمزاً للطبقة المثقفة.
الألفية الجديدة: مع تحسين تقنيات الإنتاج، انخفض سعره بنسبة 85% ليصبح في متناول الجمهور، خاصة في المقاهي والمكتبات العامة.

الاستدامة: من التحدي إلى النموذج:

1970–1990: انتُقد لاستخدام البوليستيرين الملوث.

الحلول الحديثة:

إعادة تدوير 100% للمادة الخام.
تقليل الطاقة في الإنتاج بنسبة 40% عبر الحقن بالضغط العالي (مصدر: تقرير فيترا للاستدامة 2023).
تصنيع الكرسي من 3.2 كغ فقط من البلاستيك (أقل كرسي بلاستيكي وزناً في العالم)

كرسي S ليس مجرد أداة جلوس، بل بيان فلسفي عن إمكانات التصميم اللامتناهية! رغم مرور 65 عاماً على تصميمه، ما زال يُنتج ويُدرس كحالة فريدة في دمج الفن مع التكنولوجيا. حيث نجح في تقديم حلول للمسكن العصري عبر خفة وزنه (4.5 كغ) وتطبيقه، كما أصبح نموذجاً للاستدامة عبر استخدام البولي بروبيلين المعاد تدويره.

“لقد حوّل بانتون الكرسي من أداة وظيفية إلى منحوتة ديناميكية تتحدى الزمن”. وتظل أهميته في كونه جسراً بين العمارة والتصميم الصناعي، وإثباتاً أن الإبداع يحتاج إلى صبر طويل وشجاعة كسر القواعد.