حديقة إفريقيا في تونس
هذا المشروع من العدد (108)، اضغط هنا لرؤية العدد.
لطالما كان تأثير الفن على العمارة حتمياً، وإذا درسنا أعمالاً معماريةً مختلفةً على مر العصور، نجد أن الأعمال الأكثر تميزاً هي تلك التي استخدمت الفن كوسيلةٍ للتعبير وكأداةٍ جماليةٍ بين يدي المصمم ليعطي مشروعه بعداً آخر، وهي أيضاً تلك الأعمال التي حملت رسالةً معينةً تدور حول جوهر العمل المعماري؛ الإنسان.
نتحدث في هذا المقال عن مشروعٍ مميزٍ لفنانٍ استخدم فيه أسلوبه الفنيّ إلى جانب خياله ومهاراته التصميمية، وتبنى رسالةً إنسانيةً ساميةً لم يسبقه إليها أحدٌ. لنتابع مقالنا حول حديقة إفريقيا في تونس.
على شواطئ مدينةٍ ساحلية ٍ تدعى جرجيس، تكدست مئات الجثث لمهاجرين كانوا يطمحون كغيرهم لبداياتٍ جديدةٍ على الأرض الأوروبية، وكغيرهم أيضاً كان للقدر رأيٌ آخر في تقرير مصيرهم عندما ابتلعت أمواج البحر أحلامهم ثم لفظتهم إلى اليابسة لتتكدس جثثهم في مشهدٍ مؤسف.
لقد حرك هذا المشهد مشاعر الفنان الجزائري رشيد قريشي، هو الذي كان قد فقد سابقاً أخاه بنفس الطريقة، ودفعه ذلك إلى التفكير في إنشاء مكانٍ يضم تلك الجثث ويضمن كرامة أصحابها، فصمّم “حديقة إفريقيا” في تونس، أو مقبرة المهاجرين مجهولي الهوية ذات الطابع الفني التراثي، التي حملت بصمةً إنسانيةً فريدةً من نوعها، كونها أمنت للمهاجرين دفناً لائقاً، وأتاحت لأهاليهم الأمل في إيجادهم. ترشح هذا المشروع لجائزة الآغا خان المعمارية العالمية في دورتها لعام 2022.
معلومات عن الحديقة:
تقع حديقة إفريقيا في مدينة جرجيس الساحلية جنوب شرقي تونس، وتضم حوالي 600 قبرٍ من الحجر الأبيض، وهي متاحةٌ لدفن الجثامين من جميع الأديان، ومصممةٌ ضد تسرب الماء كون المنطقة ساحلية ومعرضة لمياه البحر. يظلل تلك القبور عددٌ من الأشجار والزهور والأعشاب. يوجد فيها مصلّى، ومركزٌ لتحديد الحمض النووي الخاص بكل جثةٍ حتى يتم التعرف عليها من قبل أهلها. كما تضم أيضاً مكاناً لغسل الموتى وحفظ الجثث، وغرفة طبيبٍ ومقدم رعاية. يفصل بين القبور ممراتٌ مبلطةٌ ببلاطٍ تونسيٍ غالٍ جداً يعود للقرن السابع عشر، مزين برموزٍ وعلاماتٍ مختلفةٍ تعبر عن الأسلوب الفني الذي يتبعه قريشي دائماً.



الرمزية في عمل قريشي:
كانت لقريشي رؤيا واضحةً فيما يخص تصميم كل عنصرٍ من عناصر هذا المشروع، واعتمد على الدلالات الرمزية لتحقيق هذه الرؤيا، ويظهر ذلك واضحاً من خلال أمورٍ عدة، كالجدار الطويل الذي يحوي فتحات، حتى يستطيع الموتى أن يروا من خلاله ، وباب المدخل الأثري الأصفر الكبير الذي يرمز إلى الشمس، بفتحته المنخفضة للدخول من خلالها، وهو ما يراد به عادةً فرض الاحترام على الزوار عند دخولهم.
أما الأشجار والأعشاب فكانت لها رمزيتها الخاصة، حيث تمثل أشجار الزيتون أركان الإسلام الخمسة، والاثنا عشر كرمةً هي رمزٌ لتلاميذ السيد المسيح، وتمثل أشجار البرتقال المرّ صعوبة وشقاء الحياة، أما أشجار الرمان فهي تعبر عن الوحدة والتضامن، كحبات الرمان المتجمعة مع بعضها، وتمتلك رمزيةً صوفيةً قوية. وتعطر الهواء زهور الياسمين الإفريقية والفارسية لتزيل روائح الموت.
إن الإلهام الذي تأثر به قريشي وجعله يعتمد على نفسه بالكامل في تمويل هذا المشروع أكسبه أهميةً إضافية، حيث اشترى لنفسه قطعةً من الأرض قريبةً من مكب القمامة الذي كانت تُجمع فيه الجثث، وحوّلها إلى هذه الحديقة، وقد استطاع أن ينقل هذا الإلهام إلى أشخاصٍ آخرين وأن يدفعهم إلى العمل معه في تنفيذها، كان معظمهم من الناجين من حوادث هجرةٍ مشابهة.
ويطمح قريشي أن يطوّر مشروعه هذا ليستقبل أعداداً إضافيةً من الجثث، كون المقبرة امتلأت تقريباً وأزمة المهاجرين عن طريق البحر لا تزال مستمرةً، وهذا يستدعي البحث عن أراضٍ مجاورةٍ أو تغييراً في تصميم الحديقة لتصبح القبور مبنيةً على طوابق.



مما لا شك فيه أن الموضوع لم يكن سهلاً على رشيد قريشي، وقد واجه صعوباتٍ وعوائق اجتماعيةٍ وثقافيةٍ عديدة عند تنفيذه لمشروعه، ولكنه قدم في حديقة إفريقيا نموذجاً للمشاريع المعمارية التي تحترم الإنسان بكل اختلافاته ومراحل حياته، ومثالاً عن كمية التفاني والجهد التي يمكن أن يقدمها المصمم في سبيل تحقيق رؤياه.
لمحة عن الفنان رشيد قريشي:
من أبرز الفنانين في فن زخرفة الخط العربي ( الرسم باستخدام الخط العربي) في العالم، ولد في الجزائر عام 1947 في عين بيدا، ودرس الفنون الجميلة في الجزائر العاصمة ثم في مدينة باريس.
نشأ في عائلةٍ صوفيةٍ، وكان له نمطٌ وأسلوبٌ مميزٌ وموحّدٌ في فنه، حيث كان يستخدم الخط العربي والحروف الرسومية المأخوذة من لغاتٍ صوفيةٍ ومن حضاراتٍ أخرى عديدة. عُرضت أعماله في عدة بلدانٍ أجنبيةٍ منها إيطاليا وأميركا وبريطانيا.
من المشاريع الأخرى الفائزة بجائزة الآغا خان في تونس:
مشروع إعادة إحياء المركز الحضري في مدينة تونس:
فاز هذا المشروع بجائزة الآغا خان للعمارة عام 2010، وتم تنفيذه من قبل جمعية إنقاذ المدينة القديمة في تونس ASM Association de Sauvegarde de la Medina de Tunis)).
كان هدف المشروع إعادة تأهيل مركز المدينة القديمة الذي يحوي مبانٍ أثريةً تعود للقرنين التاسع عشر والعشرين، وهي فترةٌ كانت فيها تونس تخضع للاحتلال الفرنسي، وبالتالي تسليط الضوء على أهمية التراث المادي، وإتاحة المجال لاستثمار تلك المباني التي تتبع طرزاً معماريةً متنوعةً مثل النيو- كلاسيك، الفن الحديث، والنمط العربي المغاربي الجديد (Neo-Arabic-Moorish Style) .
شمل المشروع تجميل مركز المدينة، وترميم المباني الأثرية الأوروبية المتداعية، وتحسين حركة المرور ومواقف السيارات في منطقة المشروع، وتم اعتباره مشروعاً تجريبياً يمكن تكراره في أماكن أخرى. وقد تم توفير مساحاتٍ عمرانيةٍ واسعةٍ ومقاهٍ وممراتٍ للمشاة. الأبنية الأثرية كالبنك الفرنسي الجزائري و السوق المركزي و المسرح، وقصر روسيني التي تم ترميمها مع الحفاظ على النمط المعماري لواجهاتها وإعادة تصميم واجهات بعض الأبنية والمحلات المحيطة لتنسجم معها.
لقد كان لمشروع إعادة إحياء المركز الحضري في تونس أثرٌ مهمٌ على جميع النواحي الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية، فقد حافظ على الذاكرة الجمعية للمدينة القديمة وحوّل صورتها من تراث مهمَل إلى معلم أثري وطني وحضري.
هناك العديد من المشاريع الأخرى في تونس التي ترشحت أو فازت بجوائز معمارية مختلفة، نتيجة الاهتمام المستمر الذي توليه هذه البلاد لفن العمارة، القديم منها والحديث



معرض الصور:










المراجع:
فريق الإعداد:
إعداد: ندى حداد
نشر إلكتروني: محمد انس رستم اغا
التدقيق العلمي: م.أمنية شيخه
التدقيق اللغوي: م. حنان حداد